الأمر هو قوله - عليه السلام -: "أسفروا بالفجر". فإن معناه أطيلوا القراءة فيها، حتى تخرجوا منها في وقت الإسفار، وليس معناه ادخلوا فيها في آخر وقت الإسفار، فثبت بذلك نسخ حديث عائشة - رضي الله عنها - وما يضاهيه.
الوجه الثاني لبيان النسخ: فعل الصحابة - رضي الله عنهم - وإجماعهم من بعده على الإسفار، بالمعنى الذي ذكرنا؛ فإنهم كانوا يطولون القراءة فيها، ويخرجون مسفرين، ولو لم يعلموا نسخ ذلك لما وسعهم أن يعملوا بخلافه، والدليل على إجماعهم على ذلك ما قاله إبراهيم النخعي:"ما اجتمع أصحاب محمَّد - عليه السلام - على شيء ما اجتمعوا على التنوير" ولو لم يكن النسخ صحيحًا فكيف كان يجوز لأكابر الصحابة - رضي الله عنهم - أن يجتمعوا على الإسفار، مخالفين لما قد كانوا علموا من النبي - عليه السلام - من التغليس في الدخول فيها والخروج عنها، وهذا محال في حقهم؛ لأنهم عالمون بموارد النصوص ومواقع الأحكام، وأما ما شنع الحافظ الحازمي على الطحاوي في هذا الموضع في دعواه النسخ فقد مَرَّ جوابه فيما مضى من هذا الباب بما فيه الكفاية.
وشنع البيهقي أيضًا في كتابه "المعرفة"(١) وغيره لما تحرك له عرق العصبية، وقال: وقد ذكر الطحاوي الأحاديث التي وردت في تغليس النبي - عليه السلام - ومن بعده من الصحابة بالفجر ثم زعم أنه ليس فيها دليل على الأفضل، وإنما ذلك في حديث رافع، ولم يعلم أن النبي - عليه السلام - لا يداوم إلا على ما هو الأفضل، وكذلك أصحابه من بعده، فخرج من فعل أصحابه فإنهم كانوا يدخلون فيها مغلسين ليطيلوا القراءة، ويخرجون فيها مسفرين؛ فإن النبي - عليه السلام - إنما خرج منها مغلسًا قبل أن يشرع فيها طول القراءة، فاستدل على النسخ بفعلهم ولم يعلم أن بعضهم كانوا يخرجون منها مغلسين كما روينا عنهم، وقال عمرو بن ميمون الأودي:"صليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الفجر ولو أن ابني مني ثلاثة أذرع لم أعرفه إلا أن يتكلم". ثم احتج بحديث عائشة - رضي الله عنها -: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم