للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسح، ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق، لا بمعني أن الباء للتبعيض كما قاله البعض، وتحرير الكلام في هذا المقام ما ذكره النحاة: أن الباء تستعمل لمعانٍ كثيرة: أحدها الإلصاق، وقد جعلها الجرجانيّ أصلًا فيه بحيث إنها إذا استعملت في غيره فإنما تكون بقرينة زائدة مع الإشعار بمعنى الإلصاق، فإذا قلت: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم فالباء للاستعانة أي كتبت مستعينًا بالقلم، وعملت مستعينًا بالقدوم، وفي ذلك معنى الإلصاق، وغير الجرجاني يجعل لها معاني كثيرة، كل واحد منها برأسه، منها أن تكون للتبعيض، ذكره أبو علي في "التذكرة"، ويحكي عن الأصمعي في قول الشاعر:

شربن بماء البحر ثم ترفعت .... متى لجج خضر لهن نئيج (١)

ومن شواهد ذلك قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (٢)، وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (٣)، وقال ابن هشام: أثبت مجيء الباء للتبعيض الأصمعي، والفارسي، والقُتبي، وابن مالك -قيل: والكوفيون- وجعلوا منه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (٢) قيل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (٤)، والظاهر أن الباء فيهما للإلصاق، وقيل: هي في آية الوضوء للاستعانة، وأن في الكلام حذفًا وقلبًا، فإن "مسح" يتعدى إلى المزال عنه بنفسه، وإلى المزيل بالباء، فالأصل امسحوا رؤسكم بالماء، ونظيره بيت اللباب:

كنواح ريش حمامة نجديّة ...... ومسحت باللثَتين عَصْف الأثمد

يقول: إنَّ لبابك تضرب إلى سُمْرة فكأنك مسحتها بمسحوق الأثمد، فَقلبَ مَعْمول مَسحَ.

وقال الزمخشري في {يَشْرَبُ بِهَا}: المعنى يشرب بها الخمر كما تقول شربتُ الماء


(١) عزاه في "لسان العرب" (مادة: مخر) لأبي ذؤيب.
(٢) سورة الإنسان، آية: [٦].
(٣) سورة المطففين، آية: [٢٨].
(٤) سورة المائدة، آية: [٦].

<<  <  ج: ص:  >  >>