للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: المسح فرض، والمفروض مقدار الناصية، ومن حكم الفرض أن يكفر جاحده، وجاحد المقدار لا يكفر فكيف يكون فرضًا؟

قلت: بلى جاحد الفرض كافر، وجاحد المقدار لا يكفر؛ لأنه في حق المقدار ظني، وأصل المسح قطعي وجاحده كافر. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الناصية كل الرأس كما في قوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} (١)، فإن المراد بها ها هنا الرءوس فيكون المراد من قوله: "ومسح بناصيته": مسح برأسه؟

قلت: الأصل استعمال اللفظ فيما وضع له، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز بلا فائدة ولا قرينة لا يجوز، ولا قرينة ها هنا على أن المراد من الناصية كل الرأس، فإن قيل: كيف استدل أبو حنيفة ببعض الحديث، وترك البعض، ولم يجوز المسح على العمامة؟.

قلت: لو عمل بكل الحديث لكان تلزم به الزيادة على النص؛ لأن هذا خبر الواحد، والزيادة به على الكتاب نسخ، فلا يجوز، وأما المسح على الرأس فقد ثبت بالكتاب، فلا يلزم ذلك، ولهذا قال مالك في "موطأه": بلغني عن جابر بن عبد الله: "أنه سئل عن العمامة فقال: لا حتى يمسّ الشعر الماء".

ورواه عنه محمد في موطأه (٢): ثم قال: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، وأما مسحه - عليه السلام - على العمامة فأوّله البعض بأن المراد به ما تحته من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأَوَّله البعض بأن الراوي كان بعيدًا عن النبي - عليه السلام -فمسح النبي - عليه السلام - على رأسه ولم يضع العمامة في رأسه، فظن الراوي أنه مسح على العمامة، وقال القاضي عياض: وأحسن ما حمل عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة أنه - عليه السلام - لعلّه كان به مرض مَنَعه كشفَ رأسه فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة، وقال ابن حزم: إنَّ ذلك كان في مرات مختلفة لا أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة


(١) سورة الرحمن، آية: [٤١].
(٢) "الموطأ" رواية محمَّد بن الحسن (ص ٤٥ رقم ٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>