والحال أن الإِمام يخطب. وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين، ويروي ذلك عن عمر وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم -، كذا قاله القاضي عياض.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - أمر سُلَيكًا بما أمره به من ذلك فقطع خطبته إرادةً منه أن يُعلّم الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة، ويجوز أيضًا أن يكون بني على خطبته، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم نسخ الكلام في الصلاة، فنسخ أيضًا في الخطبة.
وقد يجوز أن يكون ما أمره به من ذلك كما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولًا بها.
فنظرنا هَلْ روي شيء يخالف ذلك؟ فإذا بحر بن نصر قد حدثنا، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت معاوية بن صالح يُحدّث، عن أبي الزاهرية، عن عبد الله بن بسر قال:"كنت جالسًا إلى جنبه يوم الجمعة، فقال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له رسول الله - عليه السلام -: اجلسْ فقد آذَيْتَ وآنيت. قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام".
أفلا تَرَى أن رسول الله - عليه السلام - أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، فهذا بخلاف حديث سليك، وفي حديث أبي سعيد الخدري الذي قد رويناه في الفصل الأول ما يدل على أن ذلك كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن يُنْهى عنها، ألا تراه يقول:"فألقى الناس ثيابهم" وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب مكروه، وأن مَسّه الحصى والإمام يخطب مكروه، وأن قوله لصاحبه: أنصت والإمام يخطب مكروه، فدل ذلك على أن ما كان أمر به النبي - عليه السلام - سُليكًا والرجل الذي أمر بالصدقة عليه كان في حالٍ الحكم فيها في ذلك بخلاف الحكم فيما بعد.