للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: كأنه بني على هذا الاختلاف أن أفعال النبي - عليه السلام - غير موجبة.

فإن قيل: يرد عليه أن النبي - عليه السلام - إذا فعل فعلًا وواظب عليه من غير تركه مرة؛ تكون واجبة مع أنه لم توجد فيه صيغة الأمر.

قلت: يمكن أن يقال: المواظبة أمر زائد على نفس الفعل، والنزاع ليس فيه، ثم تحرير الخلاف في هذا الموضع: أنه إذا نقل إلينا فعل من أفعاله - عليه السلام - التي ليست بسهوٍ مثل الزلات، ولا طبعٍ مثل الأكل والشرب، ولا من خصائصه مثل وجوب التهجد والضحى، ولا بيان لمجمل مثل المسح على الناصية، هل يسعنا أن نقول فيه: أمر النبي - عليه السلام - بكذا، وهل يجب علينا في ذلك اتباعه أم لا؟ فعند مالك في رواية وبعض الشافعية يصح إطلاق الأمر عليه بطريق الحقيقة، ويجب علينا الاتباع، وعندنا: لا، من وجوه ثلاثة:

الأول: يلزم التناقض في قولنا: فلان يفعل كذا ويأمر بخلافه، على تقدير كون الفعل أمرًا والتناقض محال، وكل تقدير يلزم منه المحال فهو محال.

الثاني: لو كان الأمر حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل؛ إذ الاطراد من غير مانع من أمارات الحقيقة ولكنه لم يطَّرد إذ لا يقال: الآكل أو الشارب آمرًا فوجب أن لا يكون حقيقة فيه؛ لأن كل مقصود من مقاصد الفعل كالماضي والحال والاستقبال مختصة بصيغ وضعت لها، والمراد بالأمر من أعظم المقاصد لحصول الابتلاء به فاختصاصه بالعبارة أحق من غيره، فإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة، ولا يكون حقيقة في غيره، وإلا يلزم الاشتراك، وهو خلاف الأصل، ويؤيد هذا كله أنه - عليه السلام - لما خلع نعليه في الصلاة خلع الناس نعالهم، فقال - عليه السلام - منكرًا عليهم بعد فراغه من الصلاة: "ما حملكم على خلع نعالكم؟ " فلو كان الفعل موجبًا وأمرًا لصار كأنه أمر بخلع النعال ثم أنكر عليهم وهو باطل، وفيه نظر؛ لأنه - عليه السلام - علل الإنكار في خلع النعال بأن جبريل - عليه السلام - قد أتاه وأخبره بأن في إحداهما قذرًا، فالإنكار وقع لأمر زائد على الاتباع وكيف يجو الإنكار على نفس الاتباع وقد أمرنا

<<  <  ج: ص:  >  >>