وقال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد": وأجمعوا أن المحرم إذا وجد إزارًا لم يجز له لبس السراويل، واختلفوا فيه إذا لم يجد إزارًا هل يلبس السراويل؟ وإن لبسهما على ذلك هل عليه فدية أم لا؟ فكان مالك وأبو حنيفة يريان على من لبس السراويل وهو محرم الفدية، وسواء عند مالك وجد الإزار أو لم يجد، وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود: إذا لم يجد المحرم إزارًا لبس السراويل ولا شيء عليه، وروى ابن وهب عن مالك والليث: من لبس خفين مقطوعين أو غير مقطوعين إذا كان واجدًا للنعلين فعليه الفدية، وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه إذا لبسهما مقطوعين أو غير مقطوعين وهو واجد للنعلين، واختلف قول الشافعي فيمن لبس الخفين مقطوعين وهو واجد للنعلين، فمرة قال: عليه الفدية، ومرة قال: لا شيء عليه.
ص: فقالوا: أما ما ذكر نحوه من لبس المحرم الخف والسراويل على حال الضرورة فنحن نقول بذلك ونبيح له لبسه للضرورة التي هي به، ولكنا نوجب عليه مع ذلك الكفارة، وليس فيما رويتموه نفي لوجوب الكفارة، ولا فيه ولا في قولنا خلاف لشيء من ذلك، لأنا لم نقل: لا يلبس الخفين إذا لم يجد نعلين ولا السراويل إذا لم يجد إزارًا ولو قلنا ذلك لكنا مخالفين لهذا الحديث، ولكنا قد أبحنا له اللباس كما أباح له النبى -عليه السلام-، ثم أوجبنا عليه مع ذلك الكفارة بالدلائل القائمة الموجبة لذلك.
ش: أي فقال هؤلاء الآخرون، وهذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى من حديث ابن عباس وجابر، بيانه أن يقال: إن حديثهما ليس بحجة علينا ولا نحن خالفناه، ولا تركنا العمل به، فإنا أيضًا نقول به، ونجوز لبسه للضرورة كما جوزتم أنتم، ولكنا نحن نقيد الجواز بالكفارة، فإذا لبس وجب عليه الكفارة، لأنه ليس في الحديث ما يدل على نفي وجوب الكفارة، غاية ما في الباب الذي يدل عليه الحديث جواز لبس الخفين عند عدم النعلين وجواز لبس السراويل عند عدم الإزار، ولو نفينا هذا لكان منا خلاف للحديث، ولم ننف ذلك، بل قد جوزناه، كما جوزه النبي -عليه السلام- ثم أوجبنا الكفارة لدلائل أخرى دلت عليه.