بعدها بحجة فكان في ذلك متمتعًا، ثم لم يطف للعمرة حتى أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا، فهذه وجوه أحاديث ابن عباس قد صحت والتأمت على القران الذي كان قبله التمتع والإِفراد فلم تتضاد إلَّا أن في قوله:"لولا أني سقت الهدي لحللت كما حل أصحابي" دليلًا على أن سياقة الهدي قد كانت في وقت أحرم فيه بعمرة يريد بها التمتع إلى الحجة؛ لأنه لو لم يكن فعل ذلك لكان هديه تطوعًا، والتطوع في الهدي غير مانع من الإِحلال الذي يكون لو لم يكن الهدي، فدل ذلك على أن إحرام رسول الله -عليه السلام- كان أولاً بعمرة، ثم أتبعها حجة على السبيل الذي ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إن حديث ابن عباس هذا يدل على أن النبي -عليه السلام- كان محرمًا مفردًا بالحج، وحديثه الآخر الذي مضى ذكره في هذا الباب يدل على أنه كان متمتعًا، وهو ما رواه ليث عن طاوس عنه قال:"تمتع رسول الله -عليه السلام- ... " الحديث.
وحديثه الآخر الذي مضى أيضًا في هذا الباب يدل على أنه كان قارنًا، وهو ما رواه عكرمة عنه عن عمر قال:"سمعت النبي -عليه السلام- وهو بالعقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة" فهذه الآثار كما ترى متضادة يخالف بعضها بعضًا، وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم ذلك؛ لأن حالات الحاج ثلاث وهي: الإِفراد والتمتع والقران، وكان النبي -عليه السلام- متلبسًا بهذه الحالات كلها لأنه كان أولاً محرمًا بحجة فكان على ذلك حتى قدم مكة ففسخ ذلك بعمرة، ثم أقام على أنها عمرة وقد نوى أن يحرم بعدها بحجة، فكان في ذلك متمتعًا، ثم قبل أن يطوف للعمرة أحرم بالحجة فصار بذلك قارنًا، فصارت أحاديث ابن عباس صُرِفَ كل واحد منها إلى حالة من تلك الحالات التي تناسب ذلك، وكذلك الجواب في رواية كل من اضطربت الروايات عنه في صفه حج النبي -عليه السلام- فبذلك يرتفع التضاد، والله أعلم.