وقلنا: دخول النبي -عليه السلام- كان ومكة حلال له حينئذٍ، وهو من خصائصه فلا يجوز لغيره ذلك، قالوا لم يكن ما حل له من ذلك إلا شهر السلاح وسفك الدماء لا غير.
وتقرير الجواب أن يقال: هذه الدعوى ممنوعة؛ إذ لو صحت لما كان لقوله:"ولا تحل لأحد بعدي" فائدة؛ لأنكم مجمعون معنا في أن أهل الشرك لو غلبوا على مكة -والعياذ بالله- ومنعوا المسلمين منها جاز حينئذٍ قتال المسلمين فيها وشهر السلاح وسفك الدماء فيستوي في ذلك حينئذٍ حكم النبي -عليه السلام- وحكم غيره في إباحتها، فعلم من ذلك أن ما كان حل منها للنبي -عليه السلام- لم يكن لأجل القتال وإنما كان خاصًّا له، ثم أوضح ذلك بقوله:"ألا ترى ... " إلى آخره، وبقوله:"وهذا عبد الله بن عباس ... " إلى آخره.
قوله:"وإنما هو على المعنى الآخر" وهو كون دخول النبي -عليه السلام- مكة بغير إحرام من خصائصه وهو المراد أيضًا من قوله:"ثبت القول الآخر".
ص: ثم احتجنا بعد هذا إلى النظر في حكم من بعد المواقيت إلى مكة هل لهم دخول الحرم بغير إحرام أم لا؟ فرأينا الرجل إذا أراد دخول الحرم لم يدخله إلاَّ بإحرام، وسواء أراد دخول الحرم لإِحرام أو لحاجة غير الإِحرام، ورأينا من أراد دخول المواضع التي بين المواقيت وبين الحرم لحاجة أن له دخولها بغير إحرام، فثبت بذلك أن حكم هذه المواضع إذا كانت تُدْخَل للحوائج بغير إحرام، كحكم ما قبل المواقيت، وأن أهلها لا يدخلون الحرم إلاَّ كما يدخله من كان أهله وراء الميقات إلى الآفاق، فهذا هو النظر عندي في هذا [الباب](١) وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- وذلك أنهم قلدوا فيما ذهبوا إليه من هذا ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه خرج من مكة يريد المدينة، فلما بلغ قديدًا بلغه عن جيش قدم المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام".
(١) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معني الآثار".