قلت: ولقد شنع بعض المتعصبين على أبي حنيفة -رضي الله عنه- في هذا المقام، منهم البيهقي؛ فإنه حكى عن ابن المديني، عن سفيان، أنه حدث الكوفيين بحديث "البيعان بالخيار" قال: فحدثوا به أبا حنيفة فقال: أن هذا ليس بشيء، أرأيت إن كان في سفينة، قال ابن المديني: إن الله سائله عما قال.
قلت: هذه حكاية منكرة لا تليق بأبي حنيفة مع ما سارت به الركبان وشحنت به كتب أصحابه ومخالفيه من ورعه المشهور، ولقد حكى الخطيب في "تاريخه" أن الخليفة في زمنه أرسل إليه يستفتيه في مسألة، فأرسل إليه بجوابها، فحدثه بعض من كان جالسًا في حلقته بحديث يخالف فتياه فرجع عن الفتيا، وأرسل الجواب إلى الخليفة على مقتضى الحديث، ويحتمل أن تكون الآفة من بعض رواة هذه الحكاية، ولم يعين ابن عيينة من حدثه بذلك، بل قال: حدثونا. وعلى تقدير صحة الحكاية؛ لم يرد بقوله:"ليس بشيء" الحديث، وإنما أراد ليس هذا لاحتجاج بشيء، يعني تأويله بالتفرق بالأبدان، فلم يَرُدَّ الحديث بل تأوله بأن التفرق المذكور فيه هو التفرق بالأقوال كقوله تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}(١) ولهذا قال: أرأيت لو كانا في سفينة، وتأول المتبايعين بالمتساومَيْن على ما هو معروف من مذهب الحنفية، ومذهبه هو قول طائفة من أهل المدينة وإليه ذهب مالك وربيعة والنخعي على ما ذكرناه، ورواه عبد الرزاق عن الثوري أيضًا والله أعلم.
ص: وقال عيسى بن أبان: الفرقة التي تقطع الخيار المذكور في هذه الآثار هي الفرقة بالأبدان، وذلك أن الرجل إذا قال للرجل: قد بعتك عبدي بألف درهم فللمخاطب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارق صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل، قال: ولولا أن هذا الحديث جاء، ما علمنا ما يقطع بما للمخاطب من قبول المخاطبة التي خاطب بها صاحبه وأوجب له بها البيع، فلما جاء هذا