اللبن كله للمشتري إذ كان ملك بعضه من قبل البائع ببيعه إياه الشاة التي قد ردها عليه بالعيب، وقد كان ملكه له بجزء من الثمن الذي كان وقع به البيع، فلم يجز أن يرد الشاة بجميع الثمن ويكون ذلك اللبن سالمًا له بغير ثمن، فلما كان ذلك كذلك منع المشتري من ردها، ورجع على بايعه بنقصان عيبها.
قال عيسى -رحمه الله-: فهذا وجه حكم بيع المصراة.
ش: هذا هو الوجه الثاني من وجوه النسخ التي ذكرناها، وهو الوجه الذي قاله عيسى بن أبان، وهو أيضًا ظاهر، ولكن ملخصه أن حكم المصراة كان حين يؤخذ بالأموال في العقوبات كما في الزكاة إذا امتنع صاحبها عن أدائها كان يؤخذ منه جبرًا، ويؤخذ معها نصف ماله، وكذا سارق الثمرة التي لم تحرز، كان يضرب جلدات عقوبة، ويغرم مثلي ما أخذه، وكذا الغالّ كان يحرق رحله، فلما نسخت هذه الأشياء بقوله تعالى:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(١) ونزلت آية تحريم الربا؛ صار الحكم أن يؤخذ في الأموال مثلها، إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت لا مثل لها، ثم في حكم المصراة التمر ليس من جنس اللبن، ومتلف الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته كما ذكرنا، فإذا كان كذلك دل على أن هذا الحكم قد كان ثم نسخ، وأيضًا فإن في دفع التمر لأجل اللبن ربا؛ لأنه بيع الطعام بالطعام متفاضلا، وقد قال -عليه السلام-: "الطعام بالطعام ربا إلا هاء وهاء" فإذا تقرر ذلك قلنا: إن المشتري يمنع من رد المصراة ولكن يرجع على بائعها بنقصان العيب؛ لأن السلامة في البيع مطلوبة المشتري فكانت شرطا في العقد دلالة، فإذا فأتت يثبت له خيار الرجوع بنقصان العيب، وإنما يمتنع رجوعه بالمصراة بجميع الثمن للمعنى الذي ذكره الطحاوي عن عيسى بن أبان، وهو قوله:"فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع ... " إلى آخره، وهو ظاهر.