للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا كان في هذا الحديث أن لذعة النار التي توافق الداء مباحة، والكي مكروه، وكانت اللدغة بالنار كيَّةً؛ ثبت أن الكي الذي يوافق الداء مباح، وأن الكي الذي لا يوافق الداء مكروه.

ش: أراد بهذه الأخبار: أحاديث جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وبعض أصحاب النبي -عليه السلام-، وأشار بهذا الكلام إلى بيان وجه التوفيق بين أحاديث الفصلين؛ لأن أحاديث الفصل الأول تنهى عن الكي، وأحاديث الفصل الثاني تبيحه، فبينهما تعارض ظاهرًا، وجه التوفيق بينها أن يقال: إن المعنى الذي أبيح بسببه الكي غير المعنى الذي نهي عنه من جهة مختلفة، فاندفع التعارض؛ لأن من شرط التعارض اتحاد الجهة، وقد بين الطحاوي ذلك.

وقال الخطابي -رحمه الله-: الكَيُّ من العلاج الذي يعرفه العامة والخاصة، والعرب تستعمل الكيَّ كثيرًا فيما يعرض لها من الأدواء، ومن أمثالهم: آخر الطب: الكَيَّ.

فأما حديث عمران في النهي عنه فقد يحتمل وجوهًا:

أحدها: أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون: آخر الدواء الكي، ويريدون أنه يحسم الداء، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك، فنهاهم عن ذلك إذا كان علي هذا الوجه، وأباح لهم استعماله علي معنى التوكل علي الله سبحانه، وطلب الشفاء، والترقي للبرء وما يُحْدِثُ الله من صنعه فيه، وتخلفه من الشفاء علي إثره، وهو أمر قد يكثر شكوك الناس فيه وتخطئ فيه ظنونهم وأوهامهم، فما أكثر ما تسمعهم يقولون: لو أقام فلان في أرضه وبلده لم يهلك، ولو شرب الدواء لم يهلك، ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب دون تسليط القضاء علينا، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها؛ قال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (١)، وقال حكاية عن الكفار: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (٢).


(١) سورة النساء، آية: [٧٨].
(٢) سورة آل عمران، آية: [١٥٦].

<<  <  ج: ص:  >  >>