هذا غيرى" لا يدل على فساد العقد الذي صدر عن بشير للنعمان - رضي الله عنهما -، وبَيَّن ذلك من وجهين:
الأول: أن النبي -عليه السلام- قد كان يتوقى الشهادة أي يتجنبها على شيء له إن شهد عليه، وذلك لغلبة ورعه وجلالة قدره؛ لأن تحمل الشهادة أمر عظيم لأجل الأداء، وكذلك غير النبي -عليه السلام- مثله في هذه القضية؛ لأن الشهادة ليست من الأمور اللازمة على الشخص؛ لأن الشاهد مخير في تحملها، فله أن يتحمل وله أن لا يتحمل.
الوجه الثاني: أن يكون إنما كان أمره بإشهاد غيره بقوله: "أشهد على هذا غيري" لأنه إمام، وليس من شأن الإِمام أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم، وقد طعن ابن حزم هاهنا هذا الكلام بقوله: "بل الإِمام يشهد" لأنه أحد المسلمين المخاطبين بأن لا يأبوا إذا دعوا، وبقوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}(١) الآية، فهذا أمر للأئمة بلا شك، والعجب من هذا القائل ومن قوله ومذهبه أن الإِمام إذا شهد عند حاكم من حكامه جازت شهادته، فلو لم يكن من شأنه أن يشهد لما جازت شهادته.
قلت: هذا كلام صادر من يَبْس دماغ، من غير روية ولا فكر، لأن مراده من مقولة: "والإمام ليس من شأنه أن يشهد" أي: ما دام في صدد الحكم، فإنه ليس له حنيئذ أن يشهد لأحد ولا عليه، وإنما له أن يسمع الدعوى والشهادة ويحكم بينهم، وأما إذا أدى عند حاكم آخر فله ذلك، سواء كان في حال انتصابه للحكم أو بعده.
وأما الآية التي استشهد بها فلا تدل على مُدَّعاه؛ لأنها ليست واردة في باب الشهادة في أمور الناس والله أعلم.
قوله: "وفي قوله: أشهد على هذا غيري دليل صحة العقد" أراد بهذا الرد على أهل المقالة الأولى في قولهم: الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض أن ذلك باطل، ودلالة هذا القول على صحة العقد ظاهرة إذْ لو كان هذا الفعل باطلًا لقال قولًا دالًّا علي.