وحمل الحديث المذكور على هذا المعنى أولى مما حملتم عليه؛ لأن فيما ذهبتم إليه يقع التضاد بين هذا الحديث وحديث أنس بن مالك المذكور في الباب السابق الذي فيه إيجاب القود على ذاك اليهودي الذي رضَّ رأس تلك الجارية بحجر.
ووجه وقوع التعارض بين الحديثين ظاهر؛ لأن الحديث الذي فيه:"ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر" يُخبر أن القتل بالحجر لا يوجب القصاص.
وحديث أنس - رضي الله عنه - يُخبر أنه يوجب القصاص، وبينهما منافاة، فإذا حملنا الحديث الأول على المعنى الذي ذهبنا إليه، يتفق حينئذٍ مع حديث أنس ولا يعارضه، فحمل الأحاديث التي يعارض بعضها بعضًا على التوافق أولى من إبقائها على التعارض والتضاد. فهذا حاصل ما ذكره الطحاوي نصرةً لأهل المقالة الثانية.
ولقائل أن يقول: لا نُسلم وقوع التعارض بين الحديثين حتى نحتاج إلى التوفيق؛ لأن حديث أنس - رضي الله عنه - يجوز أن يكون أمر النبي -عليه السلام- فيه بالقود لكون الحجر الذي قتل به اليهودي تلك الجارية مروة وهي التي لها حدّ، وهي التي تعمل عمل السكين، فلذلك أوجب -عليه السلام- قتله.
وأيضًا فقد روي في وجه آخر في حديث أنس - رضي الله عنه -: "أنه -عليه السلام- أمر اليهودي أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات" على ما مضى ذكره، ولا خلاف أن الرجم لا يجب على القود.
ووجه آخر: وهو أن يقال: يجوز أن يكون اليهودي مستأمنًا، فقتل الجارية ولحق بأرضه لقربه من المدينة، فأخذ وهو حربي، فقتله على أنه محارب حربي ورجمه، كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا إبله -عليه السلام- وقتلوا راعيه، وقطع أيديهم وأرجلهم حتى ماتوا، ثم نسخ القتل على وجه المثلة.
ووجه آخر: وهو أن يقال: يجوز أن يكون قتل النبي -عليه السلام- اليهودي حقًّا لله تعالى، حيث جعله لقاطع الطريق الذي يكون الواجب عليه حدًّا من حدود الله