للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسه، فيظهر عليه الجهل بحاله والسخط عليك والاعتراض على الرب عز وجل فيما قسم له من الفاقة إلى الخلق والتبذل عنهم، فيعمى قلبه وينطفئ نور إيمانه، فكنت أنت مؤاخذًا بذلك كله، إذا كنت سببًا لثوران ذلك من قلبه، بتركك الأدب في رده، وربما حجب أيضًا عن الصواب، والمعارف والعلوم والمصالح المدفونة في سؤاله للخلق، التي لو صبر وأحسن الأدب ظهرت وارتحل السؤال للخلق وحصل غنى اليد والقلب والبيت، وجاءته عساكر فضل الله وآلائه ونعمائه ودللته يد الرأفة والرحمة والراحة والرعاية، وتحقق فيه قوله عز وجل: {وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: ١٩٦] وجعل مصانًا مغارًا عليه، وله غنى عن الأشياء بخالقها وتأتيه الأشياء وهو لا يأتيها، يقصده القاصدون فينالون من أنواره وسره، ويطيبون بطيبه وهو لا يشعر بهم في غيب عنهم، مشغول بمولاه وجاذبه الذي جذبه إليه، وأنقذه من ظلمات مخالطة الخلق، وموافقة النفس ومتابعة الهوى، والتقيد بإرادة الأشياء دنيا وأخرى {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} [يس: ٥٥] أهل الجنة لما باعوا في الدنيا أنفسهم وأموالهم لربهم عز وجل بالجنة، كما قال جل وعلا: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة:١١١] وصبروا على الإفلاس في الدنيا وردوا التصرف في الأنفس والأموال والأولاد إلى ربهم عز وجل، وسلموا الكل إليه جل جلاله سوى الأوامر والنواهي، وامتثلوا الأوامر وانتهوا عن النواهي وسلموا في المقدور، وتحرزوا من الخليقة، وتجوهروا عن الإرادات والأماني، والهمم في الجملة أدخلهم الجنة فشغلهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال جل وعلا: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} فهكذا الفقير إذا فعل ذلك في الدنيا وتحقق بظاهر القرآن حصول الجنة له، باع حينئذ الجنة بربه عز وجل، وطلب الجار قبل الدار كما قالت رابعة رحمها الله: الجار قبل الدار، وكما قال عز وجل: {يريدون وجهه} [الأنعام: ٥٢، والكهف: ٢٨] وكما قال الله عز وجل في بعض كتبه السالفة: أود الأوداء إلى عبد عبدني بغير نوال ليعطي الربوبية حقها، وقول على رضي الله عنه: لو لم يخلق الله الجنة والنار ما كان أهلاً أن يعبد، قال عز وجل: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} [المدثر: ٥٦] فإذا اتصف الفقير بهذه الصفة، وتحقق إفلاسه عن سوى مولاه، وتنظف قلبه عن التعلق بالأشياء وفنى عنها، وصار مريدًا حقًا، وغاب عما سوى ربه عز وجل، كان حقيقًا على كرم الله أن يتولاه ويدلله وينعمه في الدنيا إلى حين اللقاء، ثم يزيده على ذلك، ويجدد

<<  <  ج: ص:  >  >>