مجلس آخر: في قوله -عز وجل-: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}[النمل: ٣]
اعلم أن هذه الآية الشريفة في سورة النمل، وهي مكية، وعدد آياتها ثلاث وتسعون آية، وكلماتها ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، وحروفها أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفًا.
وذلك أن سليمان بن داود النبي الملك -عليه السلام- وعلى نبينا المصطفى وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسائر عباد الله الصالحين وملائكته المقربين، لما خرج من وادي النمل في مسيره من بيت المقدس إلى اليمن، أخذ بالناس في مفازة فعطش الناس، فسألوه عن الماء، فتفقد الهدهد عند ذلك فسأل عنه، ودعا أمير الطيور، وهو الكركي، فسأل عنه، ولم يكن معه إلا هدهد واحد، فقال الكركي: لا أدري أين ذهب ولا استأمرني، وكان -عليه السلام- يريد الهدهد ليضع منقاره في الأرض فيخبره كم بعد الماء وقربه، وكم بينه وبين الماء من قامة أو فرسخ، وكان الهدهد مخصصًا بذلك من دون بقية الطيور، وكان إذا أريد منه ذلك ارتفع في طيران إلى الجو فينظر ذلك ثم ينقض إلى طين تلك البقعة التي فيها الماء فيضع منقاره فيها فيعرف ذلك، فتبادر الشياطين فتحفر تلك البقعة فيخرج الماء، وتتخذ الأحواض والبرك والركايا، وتملأ الروايا والقرب والظروف، وتشرب الدواب والناس والجان، ثم يرتحلون.
فلما فقد الهدهد في تلك الساعة، غضب سليمان عند ذلك غضبًا شديدًا وأوعده فقال:{لأعذبنه عذابًا شديدًا}[النمل: ٢١] يعني لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطيور حولًا كاملًا {أو لأذبحنه}[النمل: ٢١] ثم استثنى فقال: {أو ليأتيني بسلطان مبين}[النمل: ٢١] يقول: أو ليأتيني بعذر وحجة بينة، وكان أشد عذابه الذي يعذب به الطير لما يريد عذابه أن ينتف ريشه حتى يتركه أقرع ليس عليه ريش.
قال:{فمكث غير بعيد}[النمل: ٢٢] أي لبث غير طويل، ثم أقبل الهدهد فقيل له: إن سليمان قد أوعدك فقال: هل استثنى؟ قيل: نعم، قال: فأقبل حتى قام بين يديه وسجد، فقال: دام ملكك الدهر وعشت الأبد فجعل ينكث بمنقاره ويومئ برأسه إلى سليمان {فقال}[النمل: ٢٢] له: {أحطت بما لم تحط به}[النمل: ٢٢] يقول: أبلغت