الدنيا وأبناءها، وما ظهر لك من زينتها التي لا بقاء لها على الفردوس الأعلى، والمرافقة مع الأنبياء والصديقين والشهداء.
أما سمعت قولته عز وجل:{أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}[التوبة: ٣٨].
وقوله تعالى:{بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى}[الأعلى: ١٦ - ١٧].
وقوله تعالى:{فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى}[النازعات: ٣٧ - ٣٩].
* * *
(فصل) واعلم أن دخول النار بالكفر وتضاعف العذاب وقسمة الدركات بالأعمال السيئة والأخلاق السيئة، ودخول الجنة بالإيمان وتضاعف النعيم وقسمة الدرجات بالأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، وأن الله عز وجل خلق الجنة فحشاها بالنعيم ثوابًا لأهلها، وخلق النار فحشاها بالعذاب عقابًا لأهلها، وخلق الدنيا فحشاها بالآفات والنعيم محنة وابتلاء، ثم خلق الخلق والجنة والنار في غيب منهم لم يعاينوهما.
فالنعيم والآفات التي في الدنيا هي أنموذج الآخرة ومذاقة ما فيها، وخلق في الأرض من عبيده ملوكًا، أعطاهم سلطانًا أرعب به القلوب وملك به النفوس، فهو أنموذج ومثال لتدبيره وملكه ونفاذ أمره ومعاملته، فجعل خبر ذلك كله تنزيلًا، ووصف الدارين ووصف ملكه وقدرته وتدبيره ومنته وصنائعه وضرب الأمثال على ذلك، ثم قال تعالى، {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}[العنكبوت: ٤٣].
فالعلماء بالله يفهمون عن الله أمثاله، لأن المثل إنما هو صفة شيء قد شاهدته يريك صفة ما غاب عنك، ويبصرك بما تبصره بعينك لينفذ بصر قلبك إلى ما لا تبصره عينك، فيعقل قلبك ما خوطبت به من خبر الملكوت وخبر الدارين وخبر معاملة ملك الملوك، فليس في الدنيا نعمة ولا شهوة إلا وهي أنموذج الجنة وذوقها، ثم من وراء ذلك فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فلو سمى للعباد منها شيء لم ينتفعوا بتلك الأسماء، لأنهم لم يعقلوه هاهنا ولا أروه وليس له أنموذج في الدنيا.