للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب هنا لا يكون بإطلاق الإيجاب، ولا بإطلاق النفى، بل عندنا مقدّمتان ينبنى عليهما تحرير معنى التردد المراد فى حق الله تعالى:

أ) الأولى:

أصل استعمال هذه الكلمة إنما يكون لمن نازعها أمران يريد فعل واحد منهما، ولكنه لجهله بعاقبة هذا الاختيار فقد صار متردداً بينهما.

ب) الثانية:

أن التردد على المعنى المذكور فى المقدمة الأولى مما يُنزه الله - تعالى- عنه؛ فإن علم الله -عزوجل - مما وسع كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}

فينبني على هاتين المقدمتين أن التردد الواقع فى حق الله - تعالى- ليس من جنس التردد الذى يقع للبشر، والذى منشؤه عندهم من الجهل بعواقب الأمور، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)) (الشورى /١١)، وإنما التردد المراد قد بيَّنه سياق حديث الباب، (يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ..)، يكون بين أمرين:

الأول:

" انفاذ ما قدِّر من موت المؤمن، ولا شك أنه قضاء نافذ لا محالة، قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) "

الثانى:

" كراهية ما يحصل من مساءة المؤمن بتقدير الموت عليه ".

فصار الأمر محبوباً من جهة ومبغوضاً من جهة، محبوب من جهة أنه يؤدي إلى ما هو خير؛ فبالموت ينتقل المؤمن إلى ما هو خير له، ومكروه من جهة أن العبد يكره ذلك. (١)


(١) وقد ذهب جملة من شرَّاح هذا الحديث إلى تأويل صفة التردد وصرفها عن ظاهرها، وذلك بنفي صفة التردد عن الله تعالى، وإلى هذا ذهب الخطابي وابن حجر والشوكاني والسيوطي وابن الجوزي، وهو مسلك أهل التاويل من شراح الحديث وغيرهم.
بل إن هذا مما دفع الذهبى إلى الكلام في سند الحديث، فقال:
فهذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعددته في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه!
ومن جملة التأويلات البعيدة التى ذكروها لمعنى التردد الوارد في حديث الباب، منها:
أ) هو من تردد العبد حين يصاب بداء، فيدعو الله فيشفيه منه، ثم يبدو له أن يتركه ويعرض عنه، فلا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله، فإنه قد كتب الفناء على خلقه.
ب) أن يكون معناه: "ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله ترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روى من قصة موسى وملك الموت صلوات الله عليهما وما كان من لطمه عينة وتردده إليه مرة أخرى.
ج) وهو أن يكون خطاباً لنا بما نعقل، والرب عز وجل يتنزه عن حقيقته، بل هو من جنس قوله:
" ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ". فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديباً، فتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما إلى غير ذلك من التأويلات البعيدة التي تصرف الحديث عن ظاهره من غير قرينة توجب ذلك.، ولا ريب أن المسلك المذكور أعلاه هو المسلك الجاري على قواعد أهل السنة والجماعة في هذا الباب، = =وذلك بحمل الحديث على ظاهره، وإثبات التردد صفة لله - تعالى- على مايليق بجلاله وعظمته.
وانظر أعلام الحديث (٣/ ٢٢٦٠) وكشف المشكل من حديث الصحيحين (٣/ ٥٢٧) وميزان الاعتدال (١/ ٦٤٢) وقطرالولى (ص/٤٧٠) والقول الجلي في حديث الولي (١/ ٤٣٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>