للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً»، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ: «اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ» (١)؛ فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ». (٢)

... مما سبق يَتبين أنَّ:

الجن كانوا قبل البعثة النبوية يسترِقون السمع. وقد اختلف العلماء في استراق الجن للسمع بعد مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

١ - فقال قوم: إن استراق الجن لأخبار السماء قد زال بمبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك زالت الكِهانة.

٢ - وقال آخرون: إن استراقهم باقٍ بعد مبعثه -عليه الصلاة والسلام-.


(١) قال صاحب المطالع: "الدُّخُّ" لغة في الدُّخان، لم يستطع ابن صياد أن يُتم الكلمة، ولم يهتد من الآية إلا لهذين الحرفين على عادة الكهان من اختطاف بعض الكلمات من أوليائهم من الجن، أو من هواجس النفس؛ ولهذا قَالَ له: «اخسأ فلن تعدو قدرك». وهي كلمة زجرٍ وطرد، وهي مهموزة، تقول منه: خَسَأْتُ الكَلْبَ، ومنه: قوله -تعالى-: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: ١٠٨]. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (١٠/ ٩٠).
(٢) متفق عليه.
قول ابن صياد "الدُّخُّ" أراد أن يقول "الدُّخان" فلم يستطع ولم يهتد إلى ذلك. وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ»، أي: لن تُجاوز قدرَك أن تعلم الغيب من قِبل الوحي ولا من قبيل الإلهام. قال القاضي عياض: "وأصح الأقوال في قوله "الدُّخُّ": أنه لم يهتد من الآية التى أضمرها له -عليه السلام- إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهّان؛ إذ إنما يلقي الشيطان إليهم بقدر ما يختطف قبل أن يدركه الشهابُ، ويدل عليه: قولُه ­ «اخسأ فلن تعدو قدرك»، أي: ابْعُدْ كاهناً منخرصاً، فلن تعدو قدر هذا الصنف من الاهتداء إلى بعض الشيء، وما لا يتبين منه حقيقة" (إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم (٨/ ٤٧٢)).
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن يكنه فلن تسلط عليه» أي: إن كان هذا هو الدجال، فلست أنت الذي يقتله، وإنما يقتله عيسى بن مريم -عليه السلام-. وامتحان النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن صياد، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمرَ: «إن يكنه فلن تسلط عليه» يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان متوقفاً في أمره لأنه لم يُوحَ إليه أنه الدجال ولا غيره. والخلاف في كون ابن صياد هو المسيح الدجال أو هو دجال من الدجاجلة خلافٌ عريضٌ، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>