للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«مَنْ مَاتَ فِيهِ مَاتَ شَهِيدًا وَمَنْ أَقَامَ بِهِ كَانَ كَالْمُرَابِطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ كَانَ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ» ، وَفِيهِ «الطَّاعُونُ وَالْغَرَقُ وَالْبَطْنُ وَالْحَرْقُ وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي» ، وَفِيهِ «الطَّاعُونُ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ الْمُقِيمُ بِهِ كَالشَّهِيدِ وَالْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ» ، وَفِيهِ «وَهُوَ لَكُمْ شَهَادَةٌ» ، وَفِيهِ «وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيْ طَالِبًا الثَّوَابَ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى خَوْفِ الطَّاعُونِ وَشِدَّتِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ فَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِهِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَصِّلْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ نَفْسَهَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ مَاتَ بِالطَّاعُونِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الثَّوَابِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ كَمَنْ يَمُوتُ غَرِيبًا أَوْ نُفَسَاءَ بِالطَّاعُونِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَكُونُ شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُونِ بِهِ وَيُضَافُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ بِصَبْرِهِ وَدَرَجَاتُ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ فَأَرْفَعُهَا مَنْ اتَّصَفَ بِمَا ذُكِرَ وَمَاتَ مِنْ الطَّاعُونِ وَدُونُهُ مَنْ اتَّصَفَ وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ وَدُونُهُ مَنْ اتَّصَفَ، ثُمَّ لَمْ يُطْعَنْ وَلَمْ يَمُتْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا، وَإِنْ مَاتَ مِنْ الطَّاعُونِ وَذَلِكَ يَنْشَأُ مِنْ شُؤْمِ الِاعْتِرَاضِ النَّاشِئِ عَنْ الضَّجَرِ وَالسُّخْطِ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَفِي الْجَامِعِ «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ قَالُوا قَدْ عَرَفْنَا الطَّعْنَ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ» ، وَفِيهِ «وَمَنْ صَبَرَ فِيهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» أَقُولُ وَلِنَيْلِ أُمَّتِهِ لِمِثْلِ هَذَا الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالشَّهَادَةِ دَعَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ اسْتِشْفَاقًا بِهِمْ وَمَحَبَّةً لَهُمْ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك بِالطَّعْنِ أَيْ بِالرُّمْحِ. وَالطَّاعُونُ وَخْزُ أَعْدَائِهِمْ مِنْ الْجِنِّ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَرَادَ الْمُصْطَفَى أَنْ يُحَصِّلَ لِأُمَّتِهِ أَرْفَعَ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ إمَّا مِنْ الْإِنْس أَوْ مِنْ الْجِنِّ قَالَ الرَّاغِبُ نَبَّهَ بِالطَّعْنِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبِالطَّاعُونِ عَلَى الشَّهَادَةِ الصُّغْرَى وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي خَبَرٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ «الطَّاعُونُ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ قِيلَ شَهِيدٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ مُصِرًّا عَلَيْهَا» ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ لَا يَدْخُلُهُمَا الدَّجَّالُ وَالطَّاعُونُ قُلْتُ لَعَلَّ لَهُمْ شَرَفًا مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ فَيَكُونُ الطَّاعُونُ فِي غَيْرِهِمَا بَدَلَ شَرَفِهِمَا، فَإِنْ قِيلَ كَثِيرًا مَا يَمُوتُ الْخَلْقُ مِنْ غَيْرِ الطَّاعُونِ قُلْنَا أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَكْثَرُ وَالْأَصْلَحُ أَوْ يَجُوزُ كَوْنُهُمْ مِنْ الطَّاعُونِ لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ (وَبَعْضُهُمْ حَمَلَ هَذَا النَّهْيَ عَلَى صِيَانَةِ الِاعْتِقَادِ) يَعْنِي أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ بِأَنْ يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاكَ الْقَادِمِ إنَّمَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ وَسَلَامَةَ الْفَارِّ إنَّمَا كَانَتْ لِفِرَارِهِ (فَيَجُوزُ الدُّخُولُ وَالْفِرَارُ لِمَنْ عَلِمَ عَدَمَ تَغَيُّرِ اعْتِقَادِهِ) فَعِلَّةُ النَّهْيِ الصِّيَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فَإِذَا فُقِدَتْ يَجُوزُ الْفِرَارُ وَالدُّخُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ وَإِنْ انْتَفَتْ فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ لَكِنْ لَا تَنْتَفِي فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ صِيَانَةُ اعْتِقَادِ الْجَمِيعِ فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، وَقَدْ سَمِعْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْعِلَّةَ كَثِيرًا مَا تَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجِنْسِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ وَإِنَّ هَذَا إمَّا تَخْصِيصٌ عَامٌّ أَوْ تَقْيِيدٌ مُطْلَقٌ فَلَا يَجُوزُ بِالرَّأْيِ عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِدُونِ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ (وَيَرُدُّهُ) أَيْ هَذَا الْحَمْلَ (أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) حِينَ سَافَرَ لِأَجْلِ فَتْحِ الْقُدْسِ وَقَرُبَ مِنْ الشَّامِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ رَسُولًا وَقَالَ إنَّ فِي الشَّامِ طَاعُونًا فَالْأَمْرُ إلَيْك فَتَفَرَّقُوا فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥]- وَفِرْقَةٌ عَلَى الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: ٢٤٣] الْآيَةَ فَاخْتَارَ عُمَرُ جَانِبَ الرُّجُوعِ فَقِيلَ أَتَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فَقَالَ فِرَارِي مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ إلَى قَضَاءِ اللَّهِ، ثُمَّ تَشَاوَرَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَرَأَ «إذَا سَمِعْتُمْ بِالْوَبَاءِ بِأَرْضٍ» الْحَدِيثَ فَفَرِحَ وَحَمِدَ اللَّهَ لِمُوَافَقَتِهِ اجْتِهَادَهُ (لَمْ يَدْخُلْ الشَّامَ بَعْدَ الْمَشُورَةِ) مَعَ الْأَصْحَابِ (فَرَجَعَ) إلَى الْمَدِينَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ تَجْوِيزُ جَانِبِ الْفِرَارِ وَإِبْقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>