الْبَيَانِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ وَأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمُصَنَّفَاتِ بَلْ فِيهِ بَيَانُ الضَّرُورَةِ أَيْضًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ، وَإِنْ مُلَائِمًا لِمَا اخْتَارَهُ عَنْ التوربشتي سَابِقًا مِنْ السِّرَايَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ يُنَافِي غَرَضَهُ فِي الْمَقَامِ مِنْ كَوْنِ الْفِرَارِ مِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ وَلَا يُلَائِمُ تَعْرِيفَهُ بِقَوْلِهِ (فَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى ظَاهِرِهِ) وَأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِفِعْلِ عُمَرَ بَعْدَ النُّصُوصِ السَّابِقَةِ كَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ سِيَّمَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ مِمَّا يَقْبَلُ الْكَلَامَ يُعْرَفُ مِنْ الْأُصُولِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ سُكُوتَهُمْ عِنْدَ رَأْيِ جَانِبِ الرُّجُوعِ حَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ كَانَ سَنَدَ الْإِجْمَاعِ وَبِمَا قَرَّرْنَا فِي الْمَقَامِ يَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا أُورِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ رُجُوعِ عُمَرَ لِصِيَانَةِ اعْتِقَادِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْعَوَامّ، يُؤَيِّدُهُ مَشُورَتُهُ مَعَ الْأَصْحَابِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُرَجِّحُ عُمَرُ جَانِبَ الرُّجُوعِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: ٢٤٣]- الْآيَةَ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ عَلَى طَرِيقِ النَّصِّ لِسَوْقِهَا لَهُ وَآيَةُ عَدَمِ إلْقَاءِ التَّهْلُكَةِ لَوْ سَلِمَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَقَعَ فِي دِيَارِهِمْ طَاعُونٌ فَخَرَجُوا هَارِبِينَ فَأَمَاتَهُمْ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَتَيَقَّنُوا أَنْ لَا مَفَرَّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ عَلَى الظَّاهِرِ قُلْنَا ظَاهِرٌ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ وَاخْتِيَارُ عُمَرَ فِي حَقِّ عَدَمِ الدُّخُولِ فَافْتَرَقَا، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا عَلَى ذَلِكَ فَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ رَاجِحٌ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا وَفِيهِ رَائِحَةُ الْإِجْمَاعِ كَمَا عَرَفْت وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْإِلْقَاءِ فِي التَّهْلُكَةِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ كَوْنِ التَّهْلُكَةِ قَطْعِيًّا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بَلْ ظَنِّيٌّ أَوْ وَهْمِيٌّ وَلِذَا تَرَى الْكَثِيرَ عِنْدَ وُرُودِهِمْ فِي مَحَلِّ الطَّاعُونِ لَا يَمُوتُونَ بَلْ لَا يُطْعَنُونَ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّاعُونَ لَيْسَ بِسَارٍ طَبْعًا وَسَارٍ بِإِذْنِهِ تَعَالَى فَلِلْأَوَّلِ مَنْعٌ عَنْ الْخُرُوجِ، وَقَدْ انْضَمَّ لَهُ حِفْظُ الْمَطْعُونِينَ كَمَا مَرَّ وَلِلثَّانِي مَنْعُ الدُّخُولِ، وَقَدْ انْضَمَّ لَهُ حِفْظُ الِاعْتِقَادِ فَصَارَ كَالْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ وَأَنَّ السِّرَايَةَ بِالْإِذْنِ لَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ بَلْ بِالْإِمْكَانِ وَالْوُقُوعِ فِي الْقِلَّةِ وَلَا حُكْمَ فِي النُّدْرَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مِثْلِ أَبِي مُوسَى بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفِرَارِ مِنْ الدُّخُولِ تَوْفِيقًا لِلْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي السُّعُودِ إنْ أَمْكَنَ تَوْفِيقُهُ بِمَا ذُكِرَ وَإِلَّا فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لَكِنْ يَبْقَى مَسْأَلَةُ غَصْبِ الصَّبِيِّ لِلْأَشْيَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute