الْعُقُولُ.
وَقَدْ وُجِدَ بِمِثْلِهِ كَثِيرٌ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا إذْ الْإِرْشَادُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (؛ لِأَنَّ عِلْمَنَا) فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ (وَمَذْهَبَنَا) فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ (هَذَا) الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ (مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ أَمْرًا سِوَاهُمَا وَإِلَّا لَكَانَ إنْزَالُ الْكُتُبِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ عَبَثًا لَغْوًا فَدَلَّ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَدًّا عَلَيْهِمْ فِي حَصْرِهِمْ الْوُصُولَ فِي رَفْضِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَالشَّرْعِ اللَّذَيْنِ أُخِذَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَفِي دَعْوَى رُؤْيَةِ الْأَنْوَارِ وَتَنْبِيهِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِالرُّؤْيَا وَوَجْهُ الرَّدِّ حَصْرُ الْوُصُولِ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفْيُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يَحْفَظُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَتَقْيِيدُ الْوُصُولِ وَالْحَقُّ الْقَوِيمُ بِهِمَا وَتَصْوِيرُ الرَّدِّ أَنَّ مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ أَنَّ الْوُصُولَ إنَّمَا يَكُونُ بِرَفْضِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَنْ ادَّعَيْتُمْ تَقْلِيدَهُمْ وَسَلَّمْتُمْ صِدْقَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ الْعِظَامِ كَالْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكُلِّ مَنْ شَأْنُهُ كَذَا فَبَاطِلٌ فَالْكُبْرَى ظَاهِرَةٌ.
وَأَمَّا الصُّغْرَى، فَإِنَّ الْوُصُولَ شَيْءٌ وَرَدَ فِي حَقِّهِ عَنْ الْجُنَيْدِ الْحَصْرُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَا فَلَا يَكُونُ بِرَفْضِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّسُولِ فَهَذَا فِي قُوَّةِ الصُّغْرَى وَعَلَيْهِ فَقِسْ ثُمَّ لَازِمٌ عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ بَعْضَ اللَّطَائِفِ الْجُنَيْدِيَّةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ مَا أُخِذَ التَّصَوُّفُ عَنْ الْقِيلِ وَالْقَال وَلَكِنْ عَنْ الْجُوعِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَقَطْعِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْمُسْتَحْسِنَات وَقَوْلُهُ إنْ أَمْكَنَك أَنْ لَا تَكُونَ آلَةَ بَيْتِك إلَّا خَزَفًا فَافْعَلْ وَقَوْلُهُ لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ الَّذِي فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ.
وَقَوْلُهُ وَعِلْمُنَا هَذَا مُشَيَّدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ لَهُ مِمَّنْ اسْتَفَدْت هَذَا الْعِلْمَ فَقَالَ مِنْ جُلُوسِي بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً تَحْتَ تِلْكَ الدَّرَجَةِ وَأَوْمَأَ إلَى دَرَجَةٍ فِي دَارِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطُوفِيُّ كُنْت عِنْدَ الْجُنَيْدِ حِين مَاتَ خَتَمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ سَبْعِينَ آيَةً ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ حَيْثُ مَدَحَ الْمُتَصَوِّفَةَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ بِالْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ عَلَيْهِمْ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت غَرَضَ الْمُصَنِّفِ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَكَمَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِمْ بِإِلْحَادٍ هُمْ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الْوِلَايَةَ وَالْوُصُولَ فِي مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْتَزَمُوا مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَجَعَلُوا الْإِتْيَانَ بِهِمَا مِنْ الْحُجُبِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْوُصُولِ وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ قَدَّسَ أَسْرَارَهُمْ بِفَرْطِ تَجَنُّبٍ عَنْ مُحْتَمَلَاتِ أَمْثَالِهَا فَضْلًا عَنْ يَقِينِيَّاتِهَا.
(وَقَالَ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ خَالُ الْجُنَيْدِ وَأُسْتَاذُهُ وَتِلْمِيذُ مَعْرُوفِ الْكَرْخِيِّ أَوْحَدُ زَمَانِهِ فِي الْوَرَعِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَعُلُومِ التَّوْحِيدِ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ كَانَ يَتَّجِرُ فِي السُّوقِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ فَجَاءَ مَعْرُوفٌ يَوْمًا وَمَعَهُ صَبِيٌّ يَتِيمٌ فَقَالَ: اُكْسُ هَذَا الْيَتِيمَ فَكَسَاهُ فَفَرِحَ بِهِ وَقَالَ بَغَّضَ اللَّهُ إلَيْكَ الدُّنْيَا قَالَ فَقُمْت مِنْ الْحَانُوتِ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ مِنْ بَرَكَاتِ مَعْرُوفٍ وَفِيهِ عَنْ الْجُنَيْدِ مَا رَأَيْت أَعْبَدَ مِنْ السَّرِيِّ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٌ وَتِسْعُونَ حِجَّةً أَيْ سَنَةً مَا رُئِيَ مُضْطَجِعًا إلَّا فِي عِلَّةِ الْمَوْتِ.
وَفِيهِ عَنْ السَّرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي الِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ مَرَّةً قِيلَ لَهُ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ وَقَعَ بِبَغْدَادَ حَرِيقٌ فَاسْتَقْبَلَنِي وَاحِدٌ فَقَالَ بَقِيَ حَانُوتُك فَقُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ حَيْثُ أَرَدْت لِنَفْسِي خَيْرًا مِمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ سُئِلَ مِنْهُ عَنْ أَكْثَرِ طُرُقِ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَا تَسْأَلْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا تَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ مَعَك شَيْءٌ تُعْطِي أَحَدًا.
وَفِي أَخْبَارِ الْأَخْيَارِ سُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ حَالِهِ حِينَ عِيَادَتِهِ فَقَالَ كَيْفَ أَشْكُو إلَى طَبِيبِي مَا بِي وَاَلَّذِي بِي أَصَابَنِي مِنْ طَبِيبِي وَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي فَقَالَ إيَّاكَ وَصُحْبَةَ الْأَشْرَارِ وَأَنْ تَنْقَطِعَ عَنْ رَبِّك بِصُحْبَةِ الْأَخْيَارِ وَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ غُفِرَ لِي وَلِمَنْ صَلَّى عَلَيَّ فَقِيلَ أَنَا مِمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَك فَأَخْرَجَ وَرَقًا فَلَمْ يَرَ فِيهِ اسْمِي فَقُلْت بَلَى قَدْ حَضَرْت فَنَظَرَ، فَإِذَا اسْمِيّ فِي الْحَاشِيَةِ.
(التَّصَوُّفُ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ وَهُوَ) أَيْ الصُّوفِيُّ الْمَدْلُولُ مِنْ التَّصَوُّفِ (الَّذِي لَا يُطْفِئُ نُورُ مَعْرِفَتِهِ) فَاعِلُ يُطْفِئُ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا النُّورِ نَحْوُ