غَلَبَةِ الشُّهُودِ وَشِدَّةِ الْحُضُورِ وَكَمَالِ الْفِنَاءِ عَلَيْهِ (نُورَ وَرَعِهِ) بِالْتِزَامِ عَزَائِمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ الشُّبُهَاتِ إلَى مَا تَرْكُهُ أَوْلَى وَيَأْتِي الْفَضَائِلَ كُلَّهَا إلَى مَا كَانَ إتْيَانُهُ أَوْلَى.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ الْوَرَعُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الْوَرَعُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَمَنْ قَالَ بِتَرْكِ الْعُلُومِ الظَّاهِرَةِ وَتَرْكِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَجْلِ الْوُصُولِ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُ مَعْرِفَتِهِ نُورَ وَرَعِهِ (وَلَا يَتَكَلَّمُ بِبَاطِنٍ فِي عِلْمٍ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ) أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ بِمَا يُخَالِفُهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَالْعَدْلُ عَنْهَا إلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ إلْحَادٌ كَمَا فِي عَقَائِدِ النَّسَفِيِّ فَفِي كَلَامِ حَضْرَةِ الشَّيْخِ رَدٌّ لِأَهْلِ الْبَاطِنِ.
قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِهِ سُمِّيَتْ بَاطِنِيَّةً لِادِّعَائِهِمْ أَنَّ النُّصُوصَ لَيْسَتْ عَلَى ظَوَاهِرِهَا بَلْ لَهَا بَاطِنٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ إشَارَاتِ الْمَشَايِخِ وَلِطَائِفِهَا الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعَانٍ عَرَبِيَّةٍ وَخِلَافُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ قُلْت فَلَعَلَّك لَوْ تَأَمَّلْتَ مَا ذُكِرَ لَأَمْكَنَ فَهْمُك جَوَابَهُ إذْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَانِيَ بَاطِنَةٍ لَكِنْ مُلْتَزَمُ انْطِبَاقِهَا بِظَوَاهِر الْقُرْآنِ وَلِهَذَا قَالَ هِيَ إشَارَاتٌ خَفِيَّةٌ وَدَقَائِقُ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ فَهِيَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْمَشَايِخِ مِمَّا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ كَقَوْلِ الْعَارِفِ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ سُبْحَانِي مَا أَعْظَمَ شَأْنِي وَنَحْوِهِ فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الْوَجْدِ وَالسُّكْرِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلٍ صَحِيحٍ ذَكَرُوهُ فِي مَحَلِّهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ صَدَرَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَوَامّ لَخُطِّئَ بَلْ كُفِّرَ.
(وَ) الثَّالِثُ (لَا تَحْمِلُهُ الْكَرَامَاتُ عَلَى هَتْكِ) هَدْمِ حُرْمَةِ (مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى) قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ كَرَامَةً بَلْ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا كَمَا سَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبُ تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ.
قَالَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨] وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ رَدًّا لِمُدَّعَاهُمْ، وَقَدْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَشَايِخُهُمْ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ وَالِاسْتِقَامَةَ وَالتَّقْوَى أَوْلَى مِنْ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَمَزِيدَةٌ لِلْقُرْبِ وَالْقَبُولِ وَعَدَمُهَا سَبَبٌ لِلْبُعْدِ وَالطَّرْدِ، وَالْكَرَامَاتُ لَيْسَتْ مَأْمُورَةً وَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ مَحْذُورًا بَلْ تَرْكُهَا أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهَا وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إظْهَارَ الْكَرَامَةِ مِمَّا حِيضَ الرِّجَالُ فِي مَنْعِهِ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى مَعَ إشْعَارِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِرَجُلٍ لِدَنَاءَةِ هِمَّتِهِ وَرِضَاهُ بِالْأَدْنَى.
وَقَالَ هَذَا الْعَارِفُ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ لَوْ أَنَّ عَارِفًا دَخَلَ بُسْتَانًا فِيهِ أَشْجَارٌ وَعَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ طَيْرٌ يَقُولُ لَهُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا وَلَيَّ اللَّهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَزِيدَ الْخَوْفُ إذْ لَوْ لَمْ يَخَفْ لَكَانَ مَمْكُورًا قِيلَ لِسُلْطَانِ الْعَارِفِينَ: إنَّ فُلَانًا يَمْشِي إلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ فَقَالَ الشَّيْطَانُ يَمْشِي فِي سَاعَةٍ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ: إنَّ فُلَانًا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ قَالَ: الذُّبَابُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقِيلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فُلَانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ: السَّمَكُ كَذَلِكَ.
وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُدْسِيَّةِ لِزَيْنِ الدِّينِ الْحَافِيِّ وَجَمِيعُ الْمُرْشِدِينَ يُنَفِّرُونَ الْمُرِيدَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الْكَرَامَاتِ الْعَيَانِيَّةِ وَيُجِيبُونَ طَلَبَهُ لِلْحَقِّ وَالْمَيْلُ إلَيْهَا مِنْ هَوَسِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا أَلَا تَرَى أَنَّ سُلْطَانَ الْعَارِفِينَ أَبَا يَزِيدَ قَدَّسَ سِرَّهُ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ حَيْثُ قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ عَلَى مَا نُقِلَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ مِنْ قُوتِ الْقُلُوبِ اللَّهُمَّ إنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ الْمَشْيَ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ طَيَّ الْأَرْضِ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ كُنُوزَ الْأَرْضِ فَانْقَلَبَتْ لَهُمْ الْأَعْيَانُ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَدَّ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ مَقَامًا مِنْ مَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ اُنْظُرْ إلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَقُوَّةِ قَلْبِهِ لَمْ يَرْضَ إلَّا رِضَاهُ وَوَصْلَهُ.
وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا حَفْصٍ الْحَدَّادَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ الصَّحَارِي لَوْ كَانَ هُنَا شَاةٌ ذَبَحْنَاهَا، فَإِذَا ظَهَرَ ظَبْيٌ مِنْ الْبَرِّيَّة وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ الشَّيْخِ فَفَرِحُوا جَمِيعًا وَحَزِنَ وَبَكَى الشَّيْخُ فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: إعْطَاءُ الْمُرَادِ إخْرَاجٌ مِنْ الْبَابِ وَلَوْ لَمْ يُعْطِ