عَظَمَتِهِ تَعَالَى لَهُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» «قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ» كُلَّهُ «أَبَدًا» مُدَّةَ عُمْرِي فَلَا أَنَامُ أَصْلًا - {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: ٦]- وَأَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ؛ لِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَأَقْرَبِ الْقُرُبَاتِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِ الْحَبِيبِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِمَادَ الدِّينِ وَعُرْوَةَ الْإِسْلَامِ وَأَفْضَلَ الْأَعْمَالِ.
«وَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ» كُلَّهُ إلَّا الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ «وَلَا أُفْطِرُ» لِقَهْرِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى عَدُوِّ اللَّهِ وَلِئَلَّا تَقْدُمَ عَلَى الْمَعَاصِي وَتَتَجَاسَرَ عَلَى الْهَوَى وَتُوقِعَ صَاحِبَهَا فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ وَهَلَكَةٍ إذْ كُلُّ مَفْسَدَةٍ صَادِرَةٌ عَنْ النَّاسِ لَيْسَ إلَّا مِنْ طَرَفِهَا لَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صَوْمُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَذَا أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُهُ» لَكِنْ فِي مِنَحِ الْغَفَّارِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا قَالَ الْمُخْتَارُ أَفْضَلِيَّةُ صَوْمِ الدَّهْرِ وَلِذَا سَلَكَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَتَأَمَّلْ.
«وَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ» مِنْ الْعُزْلَةِ «وَلَا أَتَزَوَّجُ» وَلَا أَتَسَرَّى «أَبَدًا» مُدَّةَ عُمْرِي لِئَلَّا أَشْتَغِلَ بِخِدْمَتِهِنَّ وَبِخِدْمَتِهِنَّ يَحْصُلُ التَّعَلُّقُ بِالدُّنْيَا وَالتَّبَعُّدُ عَنْ الطَّاعَاتِ «فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ» عَلَى عَادَةِ مَجِيئِهِ لِبَيْتِهِ الشَّرِيفِ.
وَأَمَّا الْمَجِيءُ لِبُلُوغِ الْخَبَرِ وَكَوْنِهِ لِتَوَاضُعِهِ كَمَا قِيلَ فَبَعِيدٌ «فَقَالَ» كَأَنَّهُ مُعَاتِبًا لَهُمْ لِجَرَاءَتِهِمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا اسْتِئْذَانٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزَّمَانُ أَوَانُ تَوَارُدِ الْوَحْيِ وَقَدْ كَانَتْ النُّصُوصُ نَاطِقَةً بِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ وَرَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» كِنَايَةٌ عَمَّا الْتَزَمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْجَوَابَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَلْ لِلتَّقْرِيعِ كَمَا أُشِيرَ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ.
وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ مُسَارَعَةَ بَيَانِ الْحَقِّ «أَمَا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ بَعْدَهُ الْقَسَمُ «وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ» أَكْثَرُكُمْ خَشْيَةً «لِلَّهِ تَعَالَى» وَالْخَشْيَةُ خَوْفٌ مَعَ هَيْبَةٍ وَإِجْلَالٍ وَمُتَابَعَةٍ لِلْعِلْمِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨] وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَخْشَاهُمْ «وَأَتْقَاكُمْ» أَيْ أَشَدُّكُمْ تَقْوَى وَأَكْثَرُكُمْ طَاعَةً «لَهُ» عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ الطَّاعَةَ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ وَنِعْمَتُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ مِمَّا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ - {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: ١١٣]- الْآيَةُ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» فَكَيْفَ تَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ بِأَنِّي أَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَدْنَى طَاعَاتٍ وَتَعْتَذِرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ مِنْ ذَنْبِي، فَإِنْ قِيلَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِي أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ مَأْمُونُونَ مِنْ النِّيرَانِ وَسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ كَيْفَ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِهِ هَذَا «إنِّي لَأَخْشَاكُمْ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَا أَخْوَفُكُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ» «وَأُوحِيَ إلَى دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا دَاوُد خِفْنِي كَمَا تَخَافُ السَّبُعَ الضَّارِيَ» . وَقَالَ الصِّدِّيقُ الْأَعْظَمُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرَّةً يَا لَيْتَنِي كُنْت هَذِهِ التَّبِنَةَ وَقَالَ أُخْرَى لَيْتَنِي لَمْ أَكُ شَيْئًا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَدِدْت أَنِّي كَبْشٌ فَيَذْبَحَنِي أَهْلِي فَيَأْكُلُونَ لَحْمِي.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute