بِالْقَصْدِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَمَا جَاوَزَ التَّوَسُّطَ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَضِيلَةِ وَقَالَ حَكِيمٌ لِلْإِسْكَنْدَرِ أَيُّهَا الْمَلِكُ عَلَيْك بِالِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَيْبٌ وَالنُّقْصَانَ عَجْزٌ.
وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ فِي الدِّينِ أَيْ الْغُلُوَّ فِيهِ وَادِّعَاءَ طَلَبِ أَقْصَى غَايَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَهُ سَهْلًا» الْحَدِيثُ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبْغِضُ الْمُتَعَمِّقِينَ» وَالصَّحَابَةُ أَقَلُّ الْأُمَّةِ تَكَلُّفًا خَيْرُ النَّاسِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ ارْتَفَعُوا عَنْ تَقْصِيرِ الْمُرْتَفِقِينَ وَلَمْ يَلْحَقُوا بِغُلُوِّ الْمُعْتَدِينَ وَقِيلَ كَتَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي (زطب حب) الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى» عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (رُخَصُهُ) جَمْعُ رُخْصَةٍ هِيَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مِنْ صُعُوبَةٍ إلَى سُهُولَةٍ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا لِلْمَرِيضِ وَفِي التَّلْوِيحِ اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ.
وَعَنْ الْمِيزَانِ اسْمٌ لِمَا يُغَيِّرُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَخْفِيفٍ تَرْفِيهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ وَفِي الْمِرْآةِ الرُّخْصَةُ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَثِنْتَانِ مِنْ الْمَجَازِ وَالتَّفْصِيلُ هُنَاكَ وَقِيلَ مَا تُغَيِّرُ مِنْ عُسْرٍ إلَى يُسْرٍ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ رُخْصَةُ الْمُكْرَهِ وَرُخْصَةُ الْمُسَافِرِ وَرُخْصَةُ الْإِسْقَاطِ وَهِيَ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الْكَائِنَةِ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَرُخْصَةُ الْمُضْطَرِّ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَأَسْبَابُ التَّخْفِيفِ سَبْعَةٌ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَالنَّقْضُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْبَاهِ ( «كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» جَمْعُ عَزِيمَةٍ مِنْ عَزَمَ عَلَى الْأَمْرِ أَرَادَ فِعْلَهُ وَقَطَعَ عَلَيْهِ أَوْ جَدَّ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي الْأُصُولِ هِيَ مَا شُرِعَ ابْتِدَاءً غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الرُّخْصَةُ ضِدُّ الْعَزِيمَةِ وَالْعَزِيمَةُ مَطْلُوبَاتُهُ تَعَالَى الْوَاجِبَةُ، فَإِنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى فِي الرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ وَاحِدٌ فَلَيْسَ الْوُضُوءُ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ فِي مَحَلِّهِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي كَوْنِهِمَا مَطْلُوبَيْنِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَقْرِيبَ فِي دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ يَعْنِي الِاقْتِصَادَ وَلَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الرُّخْصَةَ مُطْلَقُ الْخِفَّةِ فِي الْأَعْمَالِ كَالْجَوَازِ الْأَصْلِيِّ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ فِي الْأَعْمَالِ كَالِاحْتِيَاطِ وَالْإِتْيَانِ بِالْأَوْلَى، وَإِنْ شِئْت قُلْت الْعَزِيمَةُ طَرِيقُ أَرْبَابِ التَّقْوَى وَالرُّخْصَةُ طَرِيقُ أَرْبَابِ الْفَتْوَى كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ وَغَسْلِ الرِّجْلِ عَزِيمَةٌ وَالْعَمَلُ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ عَزِيمَةٌ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ رُخْصَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَسَاوِي الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِتَفَاوُتِهِمَا قُلْنَا قَدْ قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ أَقْوَى فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْمَحَبَّةِ فِي الْمُشَبَّهِ أَصْلُهَا وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهِ زِيَادَتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ كُلِّيٌّ مُشَكَّكٌ لَا مُتَوَاطِئٌ وَيَرِدُ أَيْضًا أَنَّ تَمَامَ التَّقْرِيبِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا أُرِيدَ مِنْ الرُّخْصَةِ نَحْوُ مَعْنَى الِاقْتِصَادِ أَيْ التَّوَسُّطِ فِي الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ بَلْ يُوهِمُ كَوْنَ الْعَزِيمَةِ الْإِفْرَاطَ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَسْأَلَةُ كَوْنُ الْإِفْرَاطِ مَذْمُومًا، وَقَدْ صَرَّحَتْ كَوْنَهَا مَحْبُوبَةً لَهُ تَعَالَى بَلْ عَلَى وَجْهِ الْأَبْلَغِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ كَوْنَ الرُّخْصَةِ مَحْبُوبَةً لِلْعَوَامِّ وَكَوْنَ الْعَزِيمَةِ مَحْبُوبَةً لِلْخَوَاصِّ فَلَوْ أَتَى الْعَوَامُّ الْعَزِيمَةَ ابْتِدَاءً لَمْ تَكُنْ مَحْبُوبَةً كَالْعَكْسِ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى صَلَاحِيَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَخَفَّ الْأَعْمَالِ أَيْ الْقَلِيلَةَ الْحَاصِلَةَ بِلَا تَكَلُّفٍ وَجِدٍّ كَثِيرٍ فِي أَوَانِ الِابْتِدَاءِ كَمَا يُحِبُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute