- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَدَخَلَ مَسْجِدَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ» وَأَنَّ الْإِيمَانَ مُطْلَقُ التَّصْدِيقِ لَا التَّصْدِيقُ الْمُقَيَّدُ بِحُصُولِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - يَكْتَفُونَ بِالْإِقْرَارِ وَالِانْقِيَادِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ طَلَبُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَيْفَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ وَظَاهِرُ عَدَمِ حُصُولِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا ذَكَرَ الدَّوَانِيُّ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ أَصْلِ الْإِيمَانِ بَلْ يَنْفِي كَمَالَهُ وَيُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا كَمَا هُوَ الْمُلْتَزَمُ هُنَا وَأَيْضًا عَدَمُ الصِّحَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِإِكْفَارِ جَمِيعِ الْعَوَامّ وَارْتِدَادِهِمْ وَحُرْمَةِ ذَبِيحَتِهِمْ وَأَنْكِحَتِهِمْ
ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَ النَّافِينَ نَفْيُ الصِّحَّةِ الْكَامِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إثْمٌ وَمُرَادُ الْمُصَحِّحِينَ هُوَ أَصْلُ الْجَوَازِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا وَبِهِ تَنْدَفِعُ شُبْهَةُ أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ (وَلَكِنَّهُ) أَيْ الْمُقَلِّدَ (آثِمٌ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ) لِتَرْكِهِ النَّظَرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ فِي عَقَائِدِهِ أَجْمَعَ السَّلَفُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ شَرْعًا.
وَقَالَ الدَّوَانِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: ٥٠]- {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: ١٠١]- إلَى آخِرِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ مَا يُقَالُ: إنَّهُ لَيْسَ بِآثِمٍ أَصْلًا وَأَمَّا مَا يُقَالُ: إنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ فَهْمِ النَّظَرِ فَلَعَلَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ قَاعِدَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْقُشَيْرِيِّ وَالْعَارِفِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَابْنِ رَشِيدٍ وَجَمَاعَةٍ غَيْرِ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ فَقَطْ لَعَلَّ مُرَادَهُمْ نَفْيُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُحَرَّرَةِ بِتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَرِعَايَةِ شَرَائِطِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ تَفْصِيلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَيْنًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كِفَايَةً وَإِلَّا فَإِمَّا يَلْزَمُ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ أَوْ جَهَالَةُ مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ فَالنَّظَرُ نَحْوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَا ذُكِرَ وَالْآخَرَ أَنْ يَحْصُلَ إجْمَالُ النَّظَرِ وَمَآلُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَقْرِيرِهِ عِنْدَ السُّؤَالِ بِعِبَارَةٍ مُهَذَّبَةٍ كَالِانْتِقَالِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ.
قِيلَ: هَذَا حَاصِلٌ لِأَكْثَرِ الْعَوَامّ حَتَّى الصِّبْيَانِ وَهَذَا قَرِيبٌ لِمَا فِي التتارخانية الْإِيمَانُ بِالتَّفْصِيلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ إذَا آمَنَ فِي الْجُمْلَةِ كَفَى وَفِيهِ عَنْ النَّوَازِلِ إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعِبَارَةَ وَهُوَ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ قَرَّرَ الْمُعْتَقِدَاتِ وَقَالَ: كُنْت عَرَفْت أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَا دِينَ لَهُ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَيُجَدِّدُ نِكَاحَهُ وَفِيهِ أَيْضًا وَإِذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ كَلِمَاتِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لَا دِينَ لَهُ وَإِذَا آمَنَ جَدَّدَ نِكَاحَهُ وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَلِمَ جَمِيعَ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفَسِّرُهَا وَلَكِنْ يَتَعَقَّلُ أَمْرَ مَعَاشِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ وَفَارَقَ امْرَأَتَهُ وَلَا يَرِثُ مِنْ أَبَوَيْهِ وَنُقِلَ عَنْ الكواشي عَنْ الْفَتَاوَى لَا يَصِحُّ نِكَاحُ بَالِغَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى وَصْفِ الْإِيمَانِ بِوَلَدْ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَلَوْ بَلَغَتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ نِكَاحُهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَهَذِهِ بَلْوَى عَظِيمَةٌ وَلَهَا كَثْرَةُ عُمُومٍ وَالنَّاسُ عَنْهَا غَافِلُونَ انْتَهَى
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْت مُنَافٍ لِمَا فِي بَعْضِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنِسْبَةِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ وَنِسْبَةِ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَحُرْمَةِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ إلَى طَائِفَةٍ قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا بَلْ يُؤَيِّدُهُ إذْ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ إثْمًا.
قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَأَثَرُ الْأَقْدَامِ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ هَلَّا تَدُلَّانِ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ حِينَ سُئِلَ: بِمَ عَرَفْت رَبَّك؟ عَرَفْت بِوَارِدَاتٍ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا.
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: - عَلَى آبَائِهِ الْكِرَامِ وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَفْت اللَّهَ تَعَالَى بِنَقْضِ الْعَزَائِمِ وَفَسْخِ الْهِمَمِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ.
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ تَرْكَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاكْتِفَاءَ بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ جَازَ فِي أَصْلِهِ لَكِنْ