قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ خَطَرِ الزَّوَالِ إذْ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِمُجَرَّدِ تَشْكِيكِ الْمُشَكِّكِ سِيَّمَا عِنْدَ ضَعْفِ الْعَقْلِ بِقُوَّةِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَقُوَّةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْ زَوَالِ الْإِيمَانِ أَعَاذَنَا اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
(وَفِي) (إرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ إنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ يُشْتَرَطُ فِي الرَّسُولِ الْكِتَابُ بِخِلَافِ النَّبِيِّ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ قَالَ فِي الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ.
وَقَدْ رُوِيَ بَيَانُ عَدَدِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى عَدَدٍ فِي التَّسْمِيَةِ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ مِائَتَا أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» وَقِيلَ: الرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَأَوْرَدَ بِأَنَّ الْكُتُبَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَصْحَابُهَا مُتَعَيِّنَةٌ غَيْرُ بَالِغَةٍ إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ تَعْيِينِهِمْ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْأَصَحُّ عَدَمُ قَصْرِ الْكُتُبِ بِهَذَا الْمَبْلَغِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ تَكْرَارُ النُّزُولِ وَقِيلَ: الْخِلَافُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ أَرْبَعَةٌ تَبَايُنٌ وَتَوَافُقٌ وَعُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ وَعُمُومٌ مُطْلَقٌ.
(بِالْمُعْجِزَاتِ) جَمْعُ مُعْجِزَةٍ أَمْرٌ يَظْهَرُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ عِنْدَ تَحَدِّي الْمُنْكِرِينَ عَلَى وَجْهٍ يَعْجِزُ الْمُنْكِرُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (وَالْكُتُبِ) الْإِلَهِيَّةِ مُدَوَّنَةً أَوْ صُحُفًا (الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اخْتِيَارِ جَانِبِ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ (وَمِنْ الْبَشَرِ إلَى) سَائِرِ (الْبَشَرِ) أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ (حِكْمَةٌ) مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ وَعَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ الْحِكْمَةُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَأَحْكَمَهُ أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ عَنْ الْفَسَادِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (بَالِغَةٌ) عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ كَعَدَمِ التَّنَافُرِ وَحُسْنِ الِائْتِلَافِ وَالْإِلْفُ وَالْأُنْسُ بَيْنَ التَّجَانُسِ دُونَ التَّخَالُفِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ الْمُخَالِفِ فِي الْجِنْسِ فَإِنْ قِيلَ: الرُّسُلُ مِنْ الْبَشَرِ لَيْسَ إلَى الْبَشَرِ فَقَطْ بَلْ إلَى الْجِنِّ أَيْضًا بَلْ نَقُولُ: الرُّسُلُ لَيْسَتْ مِنْ الْبَشَرِ فَقَطْ بَلْ مِنْ الْجِنِّ كَمَا قِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى - {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: ١٣٠]- بُعِثَ إلَى كُلٍّ مِنْ الثَّقَلَيْنِ رُسُلٌ مِنْ جِنْسِهِمْ قُلْنَا: لَعَلَّ فِي لَفْظِ الْبَشَرِ الثَّانِي تَغْلِيبًا أَوْ أَنَّ الْجِنَّ مَفْهُومٌ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ أَوْ الِاكْتِفَاءِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ وَجْهُ الْحِكْمَةِ وَكَوْنُ الرُّسُلِ مِنْ الْجِنِّ لَيْسَ بِمُعْتَدٍّ بِهِ أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ عِنْدَ تِلْكَ الْآيَةِ لَعَلَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لِرَدِّ مَنْ يَجْعَلُ الْإِرْسَالَ مُمْتَنِعًا كَالسَّمْنِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَمَنْ يَجْعَلُهُ مُمْكِنًا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ كَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلِتَقْرِيرِ كَوْنِ الْإِرْسَالِ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْحِكْمَةِ تَقْتَضِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ.
كَمَا ذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ فَالتَّخْصِيصُ لِمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْعِيَانِ يُدْرِكُهُ كُلٌّ بِالْبَيَانِ وَمِنْ شَرَائِطِ النُّبُوَّةِ كَمَالُ الْعَقْلِ وَقُوَّةُ الرَّأْيِ وَالسَّلَامَةُ عَمَّا يُنَفِّرُ الطَّبِيعَةَ السَّلِيمَةَ أَوْ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَحِكْمَةِ الْبِعْثَةِ كَمَا فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ وَبِهِ يَبْطُلُ إفْرَاطُ مَا نُقِلَ فِي مَرَضِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ نَفْرَةِ قَوْمِهِ وَقَرَابَتِهِ إلَى أَنْ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَحَلَّتِهِ وَيَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ وَالتَّبْلِيغُ وَالْفَطَانَةُ.
(وَهُمْ) الْأَنْبِيَاءُ (مُبَرَّءُونَ) مِنْ الْبَرَاءَةِ أَيْ النَّزَاهَةِ يَعْنِي مُطَهَّرُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute