الْأَخْلَاقُ يَظْهَرُ حَمِيدُهَا بِالِاخْتِيَارِ وَيَظْهَرُ ذَمِيمُهَا بِالِاضْطِرَارِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهَا خُلُقٌ مَطْبُوعٌ وَبَعْضُهَا تَخَلُّقٌ مَصْنُوعٌ.
وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُلُقِ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ مَحْمُودًا وَإِلَّا فَمَأْمُورٌ بِالْمُجَاهَدَةِ حَتَّى يَكُونَ مَحْمُودًا، وَإِنْ ضَعِيفًا فَيَرْتَاضُ حَتَّى يَقْوَى، وَيَكُونَ مَحْمُودًا لَعَلَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ فِطْرَتِهِ يُخْلَقُ مُسْتَعِدًّا لِلطَّرَفَيْنِ فَبِالِاخْتِلَاطِ وَالْأُلْفَةِ وَالْأُنْسِيَّةِ يَتَجَاذَبُ وَيَزْدَادُ كُلٌّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ (وَمُنْشَؤُهُ) أَيْ مَوْضِعُ ابْتِدَائِهِ وَنَشْأَتِهِ حَمِيدًا أَوْ ذَمِيمًا (قُوَى) جَمْعُ قُوَّةٍ (النَّفْسُ) النَّاطِقَةُ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ أَنَا وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ لَكِنَّ الْمُنَاسِبَ هِيَ الْجَوْهَرُ الْمُدْرَكُ الْعَارِفُ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى (وَهِيَ) أَيْ تِلْكَ الْقُوَى الْمَنْشَئِيَّةُ (ثَلَاثٌ) الْأُولَى (النُّطْقُ، وَهُوَ قُوَّةُ الْإِدْرَاكِ) وَيُقَالُ أَيْضًا الْقُوَى الْعَقْلِيَّةُ وَالْمُدْرِكَةُ وَالنُّطْقِيَّةُ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ النُّطْقِ هُوَ الْبَاطِنِيُّ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِدْرَاكِ لَا الظَّاهِرِيُّ الَّذِي بِمَعْنَى التَّكَلُّمِ وَإِلَّا فَالْحَمْلُ وَالتَّفْسِيرُ بِالْمُبَايِنِ وَهَذَا النُّطْقُ مُمَيِّزٌ ذَاتِيٌّ لِلْإِنْسَانِ وَشَرَفُهُ عَلَى السَّائِرِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِهِ وَلَهُ طَرَفَانِ يُوجِبَانِ الذَّمَّ إفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ وَوَسَطٌ يُوجِبُ الْمَدْحَ فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا كَمَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ (فَاعْتِدَالُهُ) أَيْ النُّطْقِ هُوَ.
(الْحِكْمَةُ، وَهِيَ مَلَكَةٌ لِلنَّفْسِ تُدْرِك) أَيْ النَّفْسُ (بِهَا الصَّوَابَ مِنْ الْخَطَأِ) وَيُقَالُ أَيْضًا هِيَ مَلَكَةٌ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَأَيْضًا يُقَالُ هِيَ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ لِلْقُوَّةِ النُّطْقِيَّةِ مُتَوَسِّطَةٌ بِهَا تُدْرِك أُمُورًا يَنْبَغِي أَنْ تُدْرَكَ
اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرُهَا مُتَقَارِبَةٌ إذْ هِيَ فِي الْمَوَاقِفِ لُغَةً الْمُبَالَغَةُ فِي الْعِلْمِ.
وَعَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ هُوَ التَّنَاهِي فِي الْعِلْمِ وَاصْطِلَاحًا اسْتِكْمَالُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْفِعْلِ النَّظَرَ وَالْعَمَلَ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَيُقَرِّبُهُ مَا يُقَالُ هِيَ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا هُوَ الْحَقُّ وَنَفْسُ الْأَمْرِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ.
وَعَنْ الْمَصَابِيحِ الزَّبُورُ وَعِلْمُ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ كُلُّ كَلَامٍ وَافَقَ الْحَقَّ وَقِيلَ عَنْ شَرْحِ الْحَقَائِقِ هِيَ الْعِلْمُ اللَّدُنْيُّ وَقِيلَ هِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَقِيلَ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُنْجِيَةُ صَاحِبَهَا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُهْلِكَاتِ وَقِيلَ كَمَالُ النَّفْسِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقِيلَ خُرُوجُ النَّفْسِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ مِنْ جَانِبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَقِيلَ الشَّغْلُ بِالْعَمَلِ فِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ هِيَ جَعْلُ الْأَفْعَالِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، ثُمَّ قَالَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ لِلْحِكْمَةِ عِدَّةُ مَعَانٍ الْأَوَّلُ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ قَوْله تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩] وَيُؤَيِّدُهُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: ١٢٥] أَيْ بِالْفِقْهِ وَالثَّانِي الْإِطْلَاعُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ هَذَا الْمَعْنَى «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عُلُوِّ رُتْبَتِهِ يَدْعُو كَثِيرًا بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» ، وَهِيَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّي الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْخِدْمَةِ وَثَمَرَةُ الرِّيَاضَةِ.
قَالَ زَيْنُ الْإِسْلَامِ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ دَخَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَأَرَادَ الْوُصُولَ إلَى اللَّهِ وَقَدْ حَصَلَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ثُمَّ لَا يَشْتَغِلُ بِالذِّكْرِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ لِتَنْصَبَّ عَلَى قَلْبِهِ مِيَاهُ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ الَّتِي لَوْ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي تَدْرِيسِ الِاصْطِلَاحَاتِ وَتَصْنِيفِهَا لَا يَشُمَّ مِنْهَا رَائِحَةً وَلَا يُشَاهِدُ مِنْ آثَارِهَا وَأَنْوَارِهَا لُمْعَةً وَالسِّرُّ فِي عُلُوِّ رُتْبَتِهِ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ الْجَفَاءِ وَالِالْتِبَاسِ وَالْآخِرَةُ دَارُ الْجَلَاءِ وَالِانْكِشَافِ، وَأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ تَابِعَةٌ لِلْمَعَارِفِ الِاكْتِسَابِيَّةِ وَالِانْكِشَافِيَّة فَصَاحِبُ هَذِهِ إذَا ارْتَحَلَ مِنْ الدُّنْيَا فَازَ بِالسَّعَادَةِ الْكُبْرَى إذْ هِيَ دَارُ الِانْكِشَافِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ عَوَائِقِ عَالَمِ الْمَوَادِّ وَالْبُرْهَانِ قَوْله تَعَالَى - {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: ٦٤]- فَإِنَّهَا أَبَدِيَّةٌ سَرْمَدِيَّةٌ وَحَيَاةُ الدُّنْيَا سَرِيعَةُ الزَّوَالِ مُعْقَبَةٌ بِالْفِنَاءِ فَرُؤْيَةُ الدُّنْيَا مَوْجُودَةٌ وَالْآخِرَةِ مَعْدُومَةٌ بِنَظَرِ هَذِهِ الْعُيُونِ الْعَوْرَاءِ الْعَمْيَاءِ وَإِلَّا فَعِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَانْطِبَاقِ هَذِهِ الْعُيُونِ وَانْفِتَاحِ الْعُيُونِ الْحَقِيقِيَّةِ تَنْكَشِفُ الْقَضِيَّةُ وَتَنْقَلِبُ الْوَقِيعَةُ فَنَقُولُ يَا رَبُّ مَا هَذِهِ الْحَالَةُ وَالْأُمُورُ بِأَسْرِهَا مَعْكُوسَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute