للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ مُطْلَقُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ لَأَشْكَلَ بِالثَّانِي إذْ هُوَ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ إذْ الْأَصْلُ وَالْمُتَبَادِرُ فِي النَّظَرِ هُوَ الذَّاتُ لَا الْعَوَارِضُ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ ادَّعَى اعْتِبَارَ الْوَصْفِ الْمَذْمُومِ وَلَوْ بَعِيدًا أَوْ يُرَادُ مِنْ الْمَرْجِعِ مُطْلَقُ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ (أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَمَالٍ حَقِيقِيٍّ) بَلْ صُورِيٍّ وَمُسْتَعَارٍ مَجَازِيٍّ لِسُرْعَةِ زَوَالِهِ وَلِكَوْنِهِ مَشُوبًا بِالْكَدُورَاتِ وَالْعَوَائِقِ (لِفِنَائِهِ وَكَدُورَاتِهِ) فَإِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَإِنَّ الْبَاقِيَاتِ هِيَ الصَّالِحَاتُ (وَمَعْرِفَةُ) عَطْفٌ عَلَى أَنْ يَعْلَمَ أَيْ عِلَاجُهُ مَعْرِفَةُ (غَوَائِلِهِ الْمَذْكُورَةِ) فِي جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا مَا فُهِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ (وَأَنْ يَعْمَلَ مَا يُسْقِطُ الْجَاهَ مِنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ) الدَّنِيئَةِ عُرْفًا لَا شَرْعًا (الْمُبَاحَةِ) لِيَسْتَتِرَ بِهَا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ فَيَسْلَمَ مِنْ إقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ (كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ قَصَدَ) زِيَارَةَ (بَعْضِ الزُّهَّادِ فَلَمَّا عَلِمَ) الزَّاهِدُ (بِقُرْبِهِ مِنْهُ اسْتَدْعَى طَعَامًا وَبَقْلًا وَأَخَذَ يَأْكُلُ بِشَرَهٍ) قُوَّةِ حِرْصٍ (وَيُعَظِّمُ اللُّقْمَةَ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمَلِكُ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ وَانْصَرَفَ) الْمَلِكُ عَنْهُ (فَقَالَ الزَّاهِدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَرَفَك عَنِّي) إمَّا بِلِسَانِهِ فِي غِيَابِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الْأَكْلِ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِأَرْبَابِ الزُّهْدِ بَلْ صُنْعُهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ أَمْثَالِ هَذَا إنَّمَا هُوَ شَأْنُ الْعَوَامّ فَإِنَّ الْخَاصَّ الْعَارِفَ لَا يُغَيِّرُ اعْتِقَادَهُ بِمُطْلَقِ الْمُبَاحَاتِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْكَلَامِيَّةِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَنْفِيرِ الْخَلْقِ عَنْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الشَّرْعِ وَأَيْضًا لَيْسَ هَذَا وُقُوعًا فِي التُّهَمِ الَّتِي أُمِرْنَا بِتَجَنُّبِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ» فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْكَامِلَ لَا تُغَيِّرُ رِيَاسَتُهُ كَمَالَهُ بَلْ تَزِيدُهُ بِتَرْوِيجِ مَقَالِهِ فِي أَبْوَابِ الْمَشْرُوعَاتِ وَزَجْرِ الْمُنْهَيَاتِ بِالْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ وَالْوَصَايَا الْمُسْتَحْسَنَةِ بَلْ هُوَ طَرِيقُ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا وَجْهُ التَّسَتُّرِ فَإِنَّ الْمَلِكَ الْمَذْكُورَ مَثَلًا لَا يَخْلُو عَنْ مَنْفَعَةٍ دِينِيَّةٍ عِنْدَ صُحْبَتِهِ بِذَلِكَ الزَّاهِدِ مِنْ نَحْوِ اسْتِمَاعِ نُصْحِهِ وَائْتِمَارِ أَمْرِهِ وَرَجَاءِ مَظْلُومٍ وَتَخْلِيصِ مَلْهُوفٍ وَالْأَخْذِ مِنْ سِيرَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ وَثَوَابِ الزِّيَارَةِ قُلْنَا لَعَلَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ التَّشَبُّثَ بِالْأَفْضَلِ وَأَنَّ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِكْمَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّائِرِ لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَقْصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَزُورِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَسْكُنُ فِي بَلْدَةٍ وَأَهَالِيُهَا يَتَكَامَلُونَ بِك وَأَنْتَ مُنْتَقِصٌ بِهِمْ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْإِخْوَانِ وَضَرَرُهُمْ الْأَقَلُّ أَنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَقْتَك بِزِيَارَتِهِمْ الَّذِي لَمْ يُعْطَ لَك شَيْءٌ أَعَزُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ رَأْسُ مَالِ بِضَاعَتِك؛ لِأَنَّك إنَّمَا تَنَالُ بِهِ مَا يُنَالُ مِنْ الْقُرْبِ الْإِلَهِيِّ وَلِهَذَا كَانَ عَادَةُ الْمَشَايِخِ التَّوَحُّشَ عَنْ النَّاسِ وَالْعُزْلَةَ عَنْهُمْ وَهَذَا مَضْمُونُ مَا قَالَ (وَأَقْوَى الطُّرُقِ فِي قَطْعِ الْجَاهِ) وَإِزَالَتِهِ (الِاعْتِزَالُ عَنْ النَّاسِ) وَالنَّفْرَةُ مِنْهُمْ (إلَى مَوْضِعِ الْخُمُولِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ سُقُوطُ النَّبَاهَةِ وَعَدَمُ الذِّكْرِ وَانْصِرَافُ شُهْرَتِهِ كَالْقُرَى الْبَعِيدَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْقَلِيلِ كَالنَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ بَيْتَهُ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ «إذَا رَأَيْت النَّاسَ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودَهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتِهِمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَنَامِلِهِ فَالْزَمْ بَيْتَك وَامْلِكْ عَلَيْك لِسَانَك وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْك بِخَاصَّةِ أَمْرِ نَفْسِك وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَامَّةِ كَمَا يُقَالُ هَذَا الزَّمَانُ زَمَانُ السُّكُوتِ وَلُزُومُ الْبُيُوتِ وَالْقَنَاعَةُ بِأَقَلِّ الْقُوتِ» (وَأَمَّا الْجَاهُ فَلَا حُبَّ لَهُ وَلَا حِرْصَ عَلَيْهِ) لَا مُطْلَقًا بَلْ مِنْ حَيْثُ جَعَلَهُ آلَةً لِغَيْرِ الْمَمْدُوحِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (لِلَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ) دُونَ لَذَّةِ الْآخِرَةِ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الظَّاهِرِ لِلَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ فَاللَّامُ

<<  <  ج: ص:  >  >>