للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا مِثَالُ وُقُوعِ الرِّيَاءِ لِأَجْلِ نَفْسِ الطَّاعَةِ فِي اعْتِقَادِ الْمُرَائِي (وَكَمَنْ يُعْطَى لَهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً) مُعِينَةً لِعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ (عَيَّنَهَا وَاقِفٌ أَوْ غَيْرُهُ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ عَلَى طَرِيقِ الْوَقْفِ أَوْ لَا مِثْلُ مُطْلَقِ الْإِعْطَاءِ (لِيَقْرَأَ جُزْءًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ) فِي جَامِعٍ مُعَيَّنٍ أَوْ قَبْرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ (أَوْ يُصَلِّيَ رَكْعَةَ كَذَا أَوْ يُسَبِّحَ أَوْ يُهَلِّلَ) نَحْوَ سَبْعِينَ أَلْفًا كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بِنَاءً عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَاَلَّذِي أُوصِيك بِهِ عَلَى أَنْ تُحَافِظَهُ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ نَفْسَك مِنْ اللَّهِ بِعِتْقِ رَقَبَتِك مِنْ النَّارِ بِأَنْ تَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْتِقُ بِهَا رَقَبَتَك مِنْ النَّارِ أَوْ رَقَبَةَ مَنْ يَقُولُهَا مِنْ النَّاسِ.

وَرَدَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ نَبَوِيٌّ وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَسْطَلَّانِيُّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الرَّبِيعِ الْمَالِقِيَّ كَانَ عَلَى مَائِدَةِ طَعَامٍ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ هَذَا الذِّكْرَ، وَكَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ شَابٌّ صَغِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ فَعِنْدَمَا مَدَّ يَدَهُ إلَى الطَّعَامِ بَكَى وَقَالَ لِأَنِّي رَأَيْت أُمِّي فِي جَهَنَّمَ قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ فَوَهَبْت فِي نَفْسِي هَذَا التَّوْحِيدَ لِإِعْتَاقِ أُمِّهِ فَقَالَ الصَّبِيُّ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ النَّارِ مَسْرُورَةً فَأَكَلَ فَقَالَ أَبُو الرَّبِيعِ فَصَحَّ عِنْدِي هَذَا الْخَبَرُ النَّبَوِيُّ وَكَشْفُ هَذَا الصَّبِيِّ فَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ وَإِنْ ضَعِيفًا لَكِنْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ سِيَّمَا فِي تَأْيِيدِ نَصٍّ وَلَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي عَمَلِ بَعْضٍ وَوَصَايَاهُ كَمُلَّا خُسْرو وَابْنِ الْكَمَالِ وَوَقَعَ فِي مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ وَفِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبِسْطَامِيِّ وَأَيْضًا بَعْضُ الثِّقَةِ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ عَلِيٍّ الْقَارِي فَالْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَكِنْ بِلَا أُجْرَةٍ وَلَوْ أُعْطِيَ عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ بِلَا عَقْدٍ لَجَازَ لَكِنْ الْأَوْلَى عَدَمُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُتَعَارَفًا وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا (أَوْ يُكَبِّرُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعْطَى ثَوَابَهُ) أَيْ ثَوَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ (لِلْمُعْطِي) مِنْ الْوَقْفِ أَوْ مِنْ مَالِهِ (أَوْ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ) أَبَوَيْ الْوَاقِفِ أَوْ أَبَوَيْ مُطْلَقِ الْمُعْطِي وَكَذَا ثَوَابُ تَدْرِيسِ عِلْمِ الشَّرْعِ أَوْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنْسِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ أَوْ الْأَحْيَاءِ حَجًّا أَوْ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ فَإِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ جَازَ بِلَا شُبْهَةٍ وَيَصِلُ إلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَكِنْ الِاسْتِئْجَارُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فِي بَابِ الْحَجِّ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ وَالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَفِي الْحَجِّ وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كَانَ لِي أَبَوَانِ أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا فَكَيْفَ أَبَرُّهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك، وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهَا لِلْأَمْوَاتِ أُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَتَصَدَّقُ عَنْ مَوْتَانَا وَنَحُجُّ عَنْهُمْ وَنَدْعُو لَهُمْ فَهَلْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ قَالَ نَعَمْ وَيَفْرَحُونَ بِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالطَّبَقِ إذَا أُهْدِيَ إلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْبَكْرِيُّ وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْ جَعَلَ ثَوَابَهُ لِأُمَّتِهِ وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفَعُهُ عَمَلُ غَيْرِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ هُوَ الِاسْتِمْسَاكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: ٣٩] فَفِيهِ مَعَانٍ كَثْرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا كُلُّهُ مِنْ الْمَسْلَكِ الْمُقْسِطِ لِعَلِيٍّ الْقَارِيّ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ جِنْسَ مَا ذُكِرَ مَمْدُوحٌ فِي أَصْلِهِ وَإِنَّمَا الْإِنْكَارُ فِي الْأُجْرَةِ وَلِذَا قَالَ (فَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ) الْمُعِينُ لَهُ الْمَالُ بِالْوَقْفِ الْفَاسِدِ أَوْ الصَّدَقَةِ الْفَاسِدَةِ (طَمَعًا لِلْمَالِ لِيَجْعَلَهُ عُدَّةً) لَهُ (وَقُوَّةً لِلْعِبَادَةِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ) كَسْبٌ (حَلَالٌ) وَلَيْسَ بِحَلَالٍ بَلْ حَرَامٌ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْأَنْسَبَ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْبَحْثِ الْخَامِسِ فَتَدَبَّرْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>