للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شَكَا إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ كَثْرَةِ عِيَالِهِ، قَالَ: ارْجِعْ إلَى بَيْتِك فَمَنْ لَمْ يَكُنْ رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَاطْرُدْهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُتَوَكِّلُ مَنْ لَمْ يَدَّخِرْ لِغَدٍ وَلَمْ يَهْتَمَّ بِرِزْقٍ وَكَانَ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَوْثَقَ مِمَّا عِنْدَهُ» (قَالَ مَشَايِخُ الصُّوفِيَّةِ) الَّذِينَ أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْعَمَلَ بِالْأَقْوَى وَالْأَحْوَطِ وَالِاعْتِصَامَ بِعَزَائِمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَأْتُونَ الرُّخَصَ بِلَا ضَرُورَةٍ دُونَ الْغُلَاةِ مِنْهُمْ

(مَنْ أَعَدَّ) ادَّخَرَ (كِفَايَةَ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ لَا يُلَامُ) مِنْ اللَّوْمِ (وَلَا يَخْرُجُ) بِهِ (مِنْ التَّوَكُّلِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لِأَزْوَاجِهِ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - (قُوتَ سَنَةٍ) » قِيلَ وَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ يَأْتِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّائِلُ فَلَا يَجِدُ فِي بُيُوتِ أَهْلِهِ مَا يُطْعِمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّخِرُ لَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَيَّارَةِ فِي يَدِهِ فَيَأْتِي مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهَا فَلَا يَجِدُ شَيْئًا أَوْ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ ذَلِكَ الِادِّخَارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ (فَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ) أَيْ قُوتَ السَّنَةِ (مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ) الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا (لَا يُعْتَبَرُ فِي الْغِنَى) قِيلَ: حَتَّى لَوْ كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ مِقْدَارَ النِّصَابِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُ زَكَاةِ الْغَيْرِ وَالنَّذْرُ وَالْوَصِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوعِ (وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى قُوتِ شَهْرٍ يُعْتَبَرُ فِي الْغِنَى) فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا: فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي رَجُلٌ اشْتَرَى طَعَامًا لِلْقُوتِ بِمِقْدَارِ مَا يَكْفِيهِ شَهْرًا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى لَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِحَاجَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الشَّهْرِ لَا يُعْطَى لِأَنَّ الشَّهْرَ هُوَ الْوَسَطُ فِيمَا يَدَّخِرُ النَّاسُ لِأَنْفُسِهِمْ قُوتًا فَكَانَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ

وَفِي قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ والتتارخانية عَنْ الْخَانِيَّةِ وَلَوْ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا فَفِيهِ كَلَامٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْغِنَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَكْفِيَ مَا وَرَاءَ النِّصَابِ لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ سَنَةً، انْتَهَى وَأَيْضًا فِي الْأَشْبَاهِ وَلَوْ لَهُ قُوتُ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا أَوْ كِسْوَةً شَتْوِيَّةً لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ فَالصَّحِيحُ حِلُّ الْأَخْذِ وَفِي التتارخانية أَيْضًا قُبَيْلَ مَا ذُكِرَ آنِفًا وَالْفَتْوَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْفَضْلُ عَلَى الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ، وَلِلدِّهْقَانِ يُعْتَبَرُ الْفَضْلُ فِي قُوتِ سَنَةٍ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَقَوْلُهُ الْأَصَحُّ كَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ وَلِادِّخَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُوتَ سَنَةٍ، وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ تَحَقُّقِ الْأَصَحِّ فِيمَا لَا يَكُونُ ظَاهِرًا بَعِيدٌ، كَمَا أَنَّ الِادِّخَارَ بِقُوتِ سَنَةٍ لَا يَقْتَضِي مَا ذُكِرَ؛ إذْ عِنْدَ تَعَارُضِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَاَلَّذِي يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ يُرَجَّحُ عَلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّك سَمِعْت ذِكْرَ الْأَصَحِّ مِنْ الْأَشْبَاهِ وَإِطْلَاقِ الْفَتْوَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ عِيَالٌ (وَأَمَّا مَنْ لَا عِيَالَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ قُوتَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْأَعْدَلُ فِي حَقِّهِ هُوَ هَذَا الْوَقْتُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَسْتَحْصِلُ نَفَقَتَهُ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ وَأَمَّا الْكَثِيرُ إنْ لَمْ يَكُنْ نَفَقَتُهُ حَاضِرَةً فَاسْتِحْصَالُهَا مُحْتَاجٌ إلَى زَمَانٍ كَثِيرٍ.

(وَإِنْ ادَّخَرَ زَائِدًا عَلَيْهِ) عَلَى أَرْبَعِينَ (خَرَجَ مِنْ التَّوَكُّلِ) لِتَعَمُّقِهِ بِالْأَسْبَابِ، لَكِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، لَعَلَّ الثَّانِيَ مُنَاسِبٌ لِسِيَاقِ الْمُتَصَوِّفَةِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى الْفَتْوَى وَالثَّانِي عَلَى التَّقْوَى لَكِنْ سِيَاقُ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ فَافْهَمْ (أَقُولُ مُرَادُهُمْ) الظَّاهِرُ: الْمُتَصَوِّفَةُ بِقَوْلِهِمْ خَرَجَ مِنْ التَّوَكُّلِ هُوَ (التَّوَكُّلُ الْكَامِلُ النَّفْلِ) لَعَلَّ ذَلِكَ كَمَالٌ إضَافِيٌّ وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاجُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ أَقَلَّ قَلِيلٍ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوَكُّلِ عِنْدَهُمْ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْ احْتَجْت بَصَلَةً لِمَا فَهِمْت مَسْأَلَةً وَفِي الْقُشَيْرِيِّ عَنْ الْخَوَّاصِ لَقِيَنِي الْخَضِرُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَأَلَنِي الصُّحْبَةَ فَخَشِيت أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ تَوَكُّلِي بِسُكُونِي إلَيْهِ فَفَارَقْته وَسُئِلَ سَهْلٌ عَنْ التَّوَكُّلِ؟ فَقَالَ: قَلْبٌ عَاشَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَاقَّةٍ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ التَّوَكُّلُ التَّعَلُّقُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ (لَا أَصْلُ التَّوَكُّلِ الْفَرْضِ) بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: ٢٣] (لِمَا بَيَّنَّا فِي فَصْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>