أَوْ الشَّيْطَانِيُّ فَالْمُسَاوِي يَتَنَاقَضَانِ فَالْعَمَلُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَغَالِبُ الطَّرَفَيْنِ يُحْبِطُ مُسَاوِيَ الْآخَرِ وَيُبْقِي الزِّيَادَةَ مُوجِبَةً أَثَرَهَا اللَّائِقَ بِهَا.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ لَهَا تَأْثِيرَاتٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنْ خَلَا الْمُؤَثِّرُ عَنْ الْمُعَارِضِ خَلَا الْأَثَرُ عَنْ الضَّعْفِ وَإِنْ اقْتَرَنَ بِالْمُعَارِضِ فَتَسَاوَيَا تَسَاقَطَا وَإِنْ أَحَدُهُمَا أَغْلَبُ فَلَا بُدَّ فِي الزَّائِدِ بِقَدْرِ النَّاقِصِ فَبِقَدْرِ التَّسَاوِي يَتَسَاقَطُ فَيَبْقَى الزَّائِدُ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيُؤَثِّرُ كَمَا فِي الْفَيْضِ فَتَأَمَّلْ (وَإِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَعِلَاجُ الرِّيَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ قَطْعُ عُرُوقِهِ) مِنْ الْقَلْبِ (وَاسْتِئْصَالُ أُصُولِهِ) أَيْ خُرُوجُ أُصُولِهِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَذَلِكَ) الْقَطْعُ وَالِاسْتِئْصَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ (بِإِزَالَةِ أَسْبَابِهِ) الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ إذَا قُطِعَ عُرُوقُهُ يَبِسَ لَا مَحَالَةَ (وَتَحْصِيلِ ضِدِّهِ) أَيْ الْإِخْلَاصِ (وَأَصْلُ أَسْبَابِهِ حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَمَنْبَعُ كُلِّ شَنِيعَةٍ (وَ) حُبُّ (اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ) عَطَفَ اللَّازِمَ عَلَى الْمَلْزُومِ (وَتَرْجِيحُهَا) أَيْ الدُّنْيَا أَوْ اللَّذَّةِ (عَلَى الْآخِرَةِ) الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَهَذَا) أَيْ التَّرْجِيحُ (غَايَةُ الْحَمَاقَةِ) فَلَا حَمَاقَةَ وَرَاءَهُ (وَنِهَايَةُ الْبَلَادَةِ فَإِنَّ الدُّنْيَا كَدِرَةٌ) أَيْ مُكَدَّرَةٌ بِأَنْوَاعِ الْكُدُورَاتِ جَمَّةُ الْمَصَائِبِ كَدِرَةُ الْمَشَارِبِ تُثْمِرُ لِلْبَرِيَّةِ أَصْنَافَ الْبَلِيَّةِ مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ غُصَّةٌ وَمَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ سِمَةٌ.
وَعَنْ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ إنَّمَا جَعَلَهَا اللَّهُ مَحِلًّا لِلْأَغْيَارِ وَمَعْدِنًا لِلْأَكْدَارِ تَزْهِيدًا لَك مِنْ الْبَوَارِ فَأَذَاقَك الْأَكْدَارَ فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ ثُمَّ رَكَنَ إلَيْهَا فَمَا هُوَ إلَّا أَسْفَهُ الْأَشْرَارِ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ الْخَيَالَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَنَامَ عَلَى الْيَقَظَةِ وَالظِّلَّ الزَّائِلَ عَلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَاعَ حَيَاةَ الْأَبَدِ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ بِحَيَاةٍ هِيَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَحَالٌ حَائِلٌ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ مَا دُمْت فِي هَذِهِ الدَّارِ (سَرِيعَةُ الزَّوَالِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَالِي وَلِلدُّنْيَا وَمَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» قَالَ الطِّيبِيُّ هَذَا تَمْثِيلٌ فِي سُرْعَةِ الرِّحْلَةِ وَقِلَّةِ الْمُكْثِ.
قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ، قَالُوا يَا رُوحَ اللَّهِ وَمَنْ يَقْدِرُ قَالَ إيَّاكُمْ وَالدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا.
قَالَ الْحَكِيمُ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الدُّنْيَا مَمَرًّا وَالْآخِرَةَ مَقَرًّا.
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (وَالْآخِرَةُ صَافِيَةٌ) عَنْ تِلْكَ الْأَكْدَارِ (بَاقِيَةٌ) لَا انْقِضَاءَ لَهَا أَبَدًا (وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَاجِزُونَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَمْلِكُونَ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) لِأَحَدٍ فَإِذَنْ الْعِبَادَةُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَجَزَةِ وَمَحَبَّةِ تِلْكَ الْفَانِيَةِ الْكَدِرَةِ، وَتَرْجِيحُهَا عَلَى الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الصَّافِيَةِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ الْحَمَاقَةِ وَنِهَايَةِ الْبِغَايَةِ وَغَايَةِ الْغَوَايَةِ (فَعَلَيْك أَيُّهَا الْعَاقِلُ) الْمَاشِي عَلَى مُقْتَضَى عَقْلِهِ بِتَمْيِيزِ مَا يَنْفَعُهُ عَمَّا يَضُرُّهُ وَبِصَرْفِهِ إلَى مَا هُوَ لَهُ (أَنْ تَقْنَعَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِك) وَأَيْضًا بِثَوَابِهِ عَلَى عِبَادَتِك (وَلَا تَطْلُبُ عِلْمَ غَيْرِهِ) وَكَذَا النَّفْعُ مِنْهُ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ عَاجِزٌ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ إلَيْهِ تَعَالَى قَاصِرٌ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: ٣٦] اقْتِبَاسٌ مُشِيرٌ إلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ وَمُنَبِّهٌ عَلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ وَبَدَاهَةِ الْحُكْمِ وَتَقْرِيعٌ لِلذَّاهِلِينَ وَتَوْبِيخٌ لِلْغَافِلِينَ بِحِكَايَةِ كَلَامِ أَصْدَقِ الْقَائِلِينَ (وَ) عَلَيْك (أَنْ تَذْكُرَ وَتُكَرِّرَ عَلَى قَلْبِك) لِئَلَّا يَقَعَ الذُّهُولُ وَالْغُفُولُ، فَإِنَّ الْخَطَرَ عَظِيمٌ وَالْهَلْكَى كَثِيرٌ (غَوَائِلَ الرِّيَاءِ وَفَوَائِدَ الْإِخْلَاصِ) مِنْ نُورِهَا وَجَلَالَتِهَا وَعَظَمَتِهَا وَرِفْعَتِهَا (الْمَذْكُورَتَيْنِ) لِتَنْفِرَ عَنْ الرِّيَاءِ وَتَرْغَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ فَتَأْلَفَ مَا بِهِ الْفَائِدَةُ وَتَنْفِرُ عَمَّا بِهِ الْغَائِلَةُ فَيَزُولُ الرِّيَاءُ وَيَحْصُلُ الْإِخْلَاصُ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ أَرَادَ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute