للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ ذَاتِهِ الْمُتَكَبِّرُ فَإِنَّ الْمُتَكَبِّرَ مَنْ يَرَى الْكُلَّ حَقِيرًا بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَاتِهِ وَلَا يَرَى الْكِبْرِيَاءَ إلَّا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ صَادِقَةً كَمَا فِي اللَّهِ كَانَ حَقًّا وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَاذِبَةً فَبَاطِلًا فَهُوَ الْمَذْمُومُ (وَالتَّكَبُّرُ حَرَامٌ) عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ عَظِيمُ الْآفَاتِ وَمَنْبَعُ أَكْثَرِ الْبَلِيَّاتِ وَمُوجِبُ سُرْعَةِ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِقُّ إلَّا لَهُ تَعَالَى فَإِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَوْلَى اشْتَدَّ غَضَبُ الْمَوْلَى (إلَّا عَلَى الْمُتَكَبِّرِ) مِنْ النَّاسِ فَالتَّوَاضُعُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ لَيْسَ بِجَائِزٍ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: عَنْ الْغَيْرِ إذَا أَغْضَبَك أَحَدٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلَا تَبْتَدِئْهُ بِالصُّلْحِ؛ لِأَنَّك تُذِلُّ نَفْسَك فِي غَيْرِ مَحَلٍّ وَتُكْبِرُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الْإِفْرَاطُ فِي التَّوَاضُعِ يُورِثُ الْمَذَلَّةَ، وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمُؤَانَسَةِ يُورِثُ الْمَهَانَةَ وَإِذَا اُتُّفِقَ أَنْ يُقَامَ الْعَبْدُ فِي مَوْطِنٍ فَالْأَوْلَى فِيهِ ظُهُورُ عِزَّةِ الْإِيمَانِ وَجَبَرُوتِهِ وَعَظَمَتِهِ لِعِزِّ الْمُؤْمِنِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْمُؤْمِنِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْجَبَرُوتِ مَا يُنَاقِضُ الْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ فَالْأَوْلَى إظْهَارُ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْمَوْطِنُ فَهَذَا مِنْ بَابِ إظْهَارِ عِزَّةِ الْإِيمَانِ بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ (فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِيهِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ) عَلَى مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ: التَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَوَاضَعْت لَهُ تَمَادَى فِي ضَلَالِهِ وَإِذَا تَكَبَّرْت عَلَيْهِ تَنَبَّهَ.

وَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ تَكَبَّرْ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ التَّجَبُّرُ عَلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ مَنْ تَوَاضَعَ لِمَنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ وَقِيلَ قَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ لِتَنْبِيهِ الْمُتَكَبِّرِ لَا لِرِفْعَةِ النَّفْسِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْجُهَلَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ.

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: التَّكَبُّرُ عَلَى مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْك بِمَالِهِ تَوَاضُعٌ (وَ) إلَّا (عِنْدَ الْقِتَالِ) مَعَ الْكُفَّارِ لِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَإِيقَاعًا لِلْخَوْفِ وَالرُّعْبِ وَالْمَهَابَةِ عَلَيْهِمْ (وَ) إلَّا (عِنْدَ الصَّدَقَةِ) إظْهَارُ الْعَدَمِ قَدْرَ مَا بَذَلَهُ لِأَخِيهِ وَإِبْرَازًا لِلسُّرُورِ وَالْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَبَشَاشَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ مَعَ الْفُقَرَاءِ لِيَتَوَجَّهُوا إلَيْهِ لَدَى الِاحْتِيَاجِ فَلَا يُنَافِي مَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَظَّمَ عَلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَيَرْفُقُ وَيَتَحَاشَى عَمَّا يُوهِمُ الْأَذَى لَهُ (دَ) أَبُو دَاوُد (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ» بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَمِنْهُ الْمُخْتَالُ لِلْمُتَكَبِّرِ «الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ» تَكَبُّرُهُ «نَفْسَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ» مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ «وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ» فَثَبَتَ جَوَازُ التَّكَبُّرِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ

فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ الْفَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ قُلْنَا لِلْحَدِيثِ ابْتِدَاءٌ وَتَتِمَّةٌ كَمَا رُوِيَ عَنْ الْمُخَرِّجِينَ إذْ هُوَ «إنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَأَمَّا الَّتِي يَبْغُضُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ الرِّيبَةِ، وَإِنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى» وَتَتِمَّتُهُ «وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ تَعَالَى فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ» فَالْمُصَنِّفُ قَصَرَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاقْتِصَارِ فِي الْحَدِيثِ مُخْتَلِفٌ، فَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ جَانِبَ الْجَوَازِ وَلَعَلَّ الْعَزِيمَةَ هُوَ الْإِتْمَامُ سِيَّمَا مِنْ أَوَّلِهِ خُصُوصًا عِنْدَ ظُهُورِ الِارْتِبَاطِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَلَفْظِ الْفَاءِ ثُمَّ لَمَّا تُوُهِّمَ مِنْ ظَاهِرِ الِاخْتِيَالِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ جَوَازُ تَكَبُّرِ الْغَنِيِّ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنٌّ وَأَذًى وَاسْتِكْثَارٌ مَمْنُوعٌ بِالنَّصِّ وَقَدْ قَالُوا النَّدْبُ لِلْمُتَصَدِّقِ الْإِجْلَالُ وَالتَّوْقِيرُ لِلْفَقِيرِ حَيْثُ صَارَ سَبَبًا لِكَوْنِ الْمَالِ الْمُسْتَعَارِ الْمُجَازَى مِلْكًا حَقِيقِيًّا لَهُ وَمُدَارًا عَلَى كَوْنِهِ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ وَعَلَى كَوْنِ مَالِهِ مَأْمُونًا مِنْ الضَّيَاعِ وَالتَّلَفِ حَيْثُ كَأَنَّهُ وَضَعَهُ فِي خِزَانَةِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ وَكَذَا دَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِيَالِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ إظْهَارُ الْغِنَى) عَنْ الْمَالِ الْمُعْطَى (وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الْمَالِ) الَّذِي أَعْطَاهُ كَأَنَّهُ فِي نَظَرِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ الْفَقِيرُ الِامْتِنَانَ وَالْأَذَى (وَاسْتِصْغَارُهُ)

<<  <  ج: ص:  >  >>