حُبِّ الْقِيَامِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُبَّ ضِدُّ الْكَرَاهَةِ النَّفْسِيَّةِ فَالْقَيْدُ لَيْسَ احْتِرَازِيًّا، بَلْ مِنْ قَبِيلِ التَّأْكِيدِ أَوْ التَّوْضِيحِ كَالتَّكْرِيرِ الْإِطْنَابِيِّ (بَلْ بِقَبُولٍ وَرُكُونٍ إلَيْهِ) حَتَّى يَزِيدَ عَلَيْهِ حُبُّهُ وَيَقْضِي لِأَجْلِهِ حَاجَتَهُ وَيُعِينُ فِي أَمْرِهِ، فَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ يَغْضَبُ عَلَيْهِ وَيُعَادِي (فَإِنْ وَجَدَ كَرَاهَةً وَعَدَمَ إجَابَةٍ) لِلْحُبِّ الْمَذْكُورِ (فِي نَفْسِهِ فَذَلِكَ) الْحُبُّ (مَيْلٌ طَبِيعِيٌّ) غَيْرُ ضَارٍّ لِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ لَكِنْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ جَمْعُ هَذَا الْحُبِّ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ وَهُمَا ضِدَّانِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْحُبُّ سَابِقٌ وَضَرُورِيٌّ، وَالْكَرَاهَةُ لَاحِقٌ وَاخْتِيَارِيٌّ فَافْهَمْ (أَوْ وَسْوَسَةٌ) شَيْطَانِيَّةٌ (لَا يَضُرَّانِ) أَيْ الْمَيْلُ وَالْوَسْوَسَةُ لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا تَحْتَ الْقُدْرَةِ (كَمَا ذَكَرْنَا فِي الرِّيَاءِ) وَالضَّرَرُ الْمَحَبَّةُ مَعَ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا صُفُوفًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُثُولَ الِانْتِصَابُ يَعْنِي يَقُومُونَ لَهُ قِيَامًا صُفُوفًا أَوْ بِأَنْ يُقَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ قَالَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَمَرَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قَالَ مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ النَّارُ وَذَلِكَ نَاشِئٌ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَاعْتِقَادِ الْكَمَالِ وَذَا عُجْبٌ وَتَكَبُّرٌ وَجَهْلٌ وَغُرُورٌ وَلَا يُنَاقِضُهُ خَبَرُ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ؛» لِأَنَّ سَعْدًا لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ وَالْوَعِيدُ لِمَنْ أَحَبَّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى الْحَدِيثِ زَجْرُ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِلْقِيَامِ بِنَهْيٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ لَهُ فَلَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ فَقَامُوا لَهُ أَوْ لَمْ يَقُومُوا فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَحَبَّهُ
ثُمَّ قَامُوا أَوَّلًا فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِتَرْكِ الْقِيَامِ وَلَا يُنَافِيهِ نَدْبُ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الْكَمَالِ وَنَحْوِهِمْ انْتَهَى ثُمَّ الْمُصَنِّفُ اقْتَفَى أَثَرَ الْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْقِيَامِ وَإِلَّا فَكُلُّ مَا يُنْبِئُ عَنْ التَّرَفُّعِ وَالتَّكَبُّرِ كَالتَّقَدُّمِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ الْمَشْيِ قُدَّامَهُ وَعَدَمِ التَّكَلُّمِ قَبْلَهُ وَعَدَمِ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ وَالتَّكَلُّمِ بِالْآدَابِ فِي حُضُورِهِ وَنَحْوِهَا مُلْحَقٌ بِمَا ذُكِرَ، فَالِاكْتِفَاءُ إمَّا لِلْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا أَنْ لَا يَمْشِيَ) فِي خَارِجِ بَيْتِهِ سِيَّمَا فِي أَسْوَاقِ مَدِينَتِهِ (إلَّا وَمَعَهُ غَيْرُهُ يَمْشِي خَلْفَهُ) أَوْ وَهُوَ رَاكِبٌ وَالْغَيْرُ كَالْخُدَّامِ وَالْغِلْمَانِ يَمْشُونَ قُدَّامَهُ وَسَائِرُ طُرَّافِهِ (دَيْلَمُ) الدَّيْلَمِيُّ (حَدّ) أَحْمَدُ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ) مِنْ بَيْتِهِ (يَمْشِي إلَى الْبَقِيعِ» بِفَتْحِ الْبَاءِ مَقْبَرَةِ الْمَدِينَةِ ( «فَتَبِعَهُ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أَصْحَابُهُ فَوَقَفَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمُوا وَمَشَى خَلْفَهُمْ فَسُئِلَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنِّي سَمِعْت خَفْقَ نِعَالِكُمْ» أَصْوَاتَهَا ( «فَأَشْفَقْت» حَذِرْت «أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ» لَعَلَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِتَعْلِيمِ الْأَمْرِ وَإِلَّا فَعُرُوضُ الْكِبْرِ لَهُ بَعِيدٌ وَلَوْ سُلِّمَ عُرُوضُهُ بَغْتَةً لَأَمْكَنَ لَهُ إخْرَاجُهُ دَفْعَةً بِلَا حَاجَةٍ إلَى هَذَا التَّقْدِيمِ فَيَضْعُفُ بِهِ مَا قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا أَمْنَ لِأَحَدٍ مِنْ الْكِبْرِ وَأَنَّ غَايَتَهُ الْمَغْلُوبِيَّةُ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَزْدَادُ بُعْدًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَا مُشِيَ خَلْفَهُ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُعْرَفُ مِنْ عَبِيدِهِ إذْ كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُمْ فِي صُورَةٍ ظَاهِرَةٍ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَشْيَ الْغَيْرِ خَلْفَهُ سَبَبٌ لِلْكِبْرِ يَلْزَمُ احْتِرَازُهُ لَعَلَّ ذَلِكَ دَائِرٌ عَلَى الْقَلْبِ فَمَنْ لَا يَتَخَاطَرُ عَلَيْهِ شَائِبَةُ كِبْرٍ لَا يَلْزَمُ احْتِرَازُهُ.
(وَمِنْهَا) مِنْ أَخْلَاقِ الْمُتَكَبِّرِينَ (أَنْ لَا يَزُورَ غَيْرَهُ) سِيَّمَا نَحْوُ أَمْثَالِهِ (وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْ زِيَارَتِهِ) لِلْغَيْرِ (خَيْرٌ لَهُ) لِلزَّائِرِ وَالْمَزُورِ (أَوْ لِغَيْرِهِ) مِنْ اسْتِفَاضَةِ أَنْوَارِ الْعُلُومِ وَانْجِذَابِ الْكِمَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالسِّيَرِ السَّنِيَّةِ، وَهَذَا الْمِسْكِينُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْخَوَالِفِ حَيْثُ رَجَّحَ عَلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ تَلَهِّيَ هَوَاهُ وَأَجْرَى مُيُولَاتِهِ الشَّيْطَانِيَّةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute