(مِنْ التَّعْلِيمِ التَّوَاضُعُ) كَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا نَبَّهَ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ زِيَارَةِ الْكِبَارِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّ أَثَرَ التَّوَاضُعِ أَظْهَرُ فِيهِ كَمَا فِي الِاحْتِسَابِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَارَ يَوْمًا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَأَلْقَاهُ وِسَادَةً، فَقَالَ عُمَرُ لَمْ أَحْضُرْ لِهَذَا وَإِنَّمَا جِئْتُك لِتَفْتَحَ عَنِّي عُقْدَةً فِي قَلْبِي، فَقَالَ لَا تَلُمْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَخٌ مُسْلِمٌ فَأَلْقَاهُ وِسَادَةً غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا جَمِيعًا قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا» ، فَفِيهِ أَيْضًا بَيَانُ حُصُولِ الْخَيْرِ لَهُمَا وَاسْتِحْبَابُ الْقُدُومِ بِنَفْسِهِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَتِهِ.
(وَمِنْهَا مَنْ يَسْتَنْكِفُ مِنْ جُلُوسِ غَيْرِهِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ) فِرَارًا مِنْ إيهَامِ تَسَاوِي الْمَنْزِلَةِ مَعَهُ وَالْغَيْرُ فِي اعْتِقَادِهِ مِنْ الْخَسَائِسِ (إلَّا أَنْ يَجْلِسَ) ذَلِكَ الْغَيْرُ (بَيْنَ يَدَيْهِ) بَعِيدًا مِنْهُ كَالتِّلْمِيذِ فَرَضَاهُ فِي ذَلِكَ الْجُلُوسِ.
(وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَقَّى مُجَالَسَةَ الْمَرْضَى وَالْمَعْلُولِينَ وَيَتَحَاشَى عَنْهُمْ) لَعَلَّ هَذَا مَا يَكُونُ لِدَاعِي الْكِبْرِ وَإِلَّا فَنَقْلُ جَوَازِ الْفِرَارِ مِنْ الْأَمْرَاضِ السَّارِيَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى لَكِنْ فِي الْإِحْيَاءِ «دَخَلَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ جُدَرِيٌّ قَدْ تَقَشَّرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ فَمَا جَلَسَ بِجَنْبِ أَحَدٍ إلَّا قَامَ مِنْ جَنْبِهِ فَأَجْلَسَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِجَنْبِهِ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُقْعِدُ عَلَى الْمَائِدَةِ مَنْ رَأَى مِنْ الْمَجْذُومِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمُبْتَلَى.
(وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَعَاطَى) لَا يَتَنَاوَلَ (بِيَدِهِ شُغْلًا فِي بَيْتِهِ) رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ لَيْلَةً ضَيْفٌ وَكَانَ يَكْتُبُ وَكَادَ السِّرَاجُ يُطْفَأُ فَأَرَادَ الضَّيْفُ إصْلَاحَهُ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْكَرَمِ اسْتِخْدَامُ الضَّيْفِ فَأَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ الْغُلَامَ قَالَ أَوَّلُ نَوْمَةٍ نَامَهَا فَقَامَ بِنَفْسِهِ فَمَلَأَ الْمِصْبَاحَ زَيْتًا، فَقَالَ الضَّيْفُ قُمْت أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ ذَهَبْت وَأَنَا عُمَرُ وَرَجَعْت وَأَنَا عُمَرُ وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَاضِعًا.
(وَمِنْهَا أَنْ لَا يَحْمِلَ مَتَاعَهُ إلَى بَيْتِهِ) بِنَفْسِهِ (وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ هَذِهِ الْمَنْفِيَّاتِ) وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَا يَنْقُصُ الرَّجُلَ مِنْ كَمَالِهِ مَا حَمَلَ مِنْ شَيْءٍ إلَى عِيَالِهِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرَقِّعُ الْقَمِيصَ وَيَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَقُولُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَلْبَسُوا الصُّوفَ وَيَحْلِبُوا الْغَنَمَ وَيَرْكَبُوا الْحِمَارَ، وَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِحَقٍّ أَقُولُ إنَّهُ مَنْ طَلَبَ الْفِرْدَوْسَ فَغِذَاءُ الشَّعِيرِ لَهُ وَالنَّوْمُ عَلَى الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ كَثِيرٌ وَفِيهِ نَدْبُ خِدْمَةِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ لَا دَنَاءَةَ فِي ذَلِكَ.
(وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ لُبْسِ الدُّونِ مِنْ الثِّيَابِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا خَرَّجَهُ د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ «الْبَذَاذَةُ» بِفَتْحِ الْبَاءِ رَثَاثَةُ الْهَيْئَةِ وَخُلُوقَةُ الثِّيَابِ وَقِيلَ الدُّونُ مِنْ الثِّيَابِ «مِنْ الْإِيمَانِ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفِيسَةِ بِلَا وِجْدَانِ كَرَاهَةٍ فِي الْقَلْبِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إلَى السُّوقِ وَبِيَدِهِ الدِّرَّةُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ أُدْمٍ وَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَوْدَةُ الثِّيَابِ خُيَلَاءُ الْقَلْبِ وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الَّذِي لِأَجْلِهِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَجِدُ نَفْسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ» وَكَانَ هُوَ يَجْمَعُ قِطَعَ الْخِرَقِ مِنْ الْمَزَابِلِ وَيَغْسِلُهَا وَيَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَيَلْبَسُهَا وَمِنْ أَحَادِيثِ الْجَامِعِ «أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَبَذِّلَ» أَيْ تَارِكَ الزِّينَةِ تَوَاضُعًا «الْمُحْتَرِفَ» الَّذِي لَهُ صِنَاعَةَ يَكْتَسِبُ بِهَا «الَّذِي لَا يُبَالِي مَا لَبِسَ» أَهُوَ مِنْ الْفَاخِرَةِ أَوْ أَدْنَى اللِّبَاسِ وَأَقَلِّهِ قِيمَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَأْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْهَجُ الْحُكَمَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدُمُك وَلَا يَسْتَخْدِمُك قَالَ الْغَزَالِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute