فَيَرْفَعَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ
وَعَنْ الطَّبَرِيِّ فِي التَّوَاضُعِ مَصْلَحَةُ الدَّارَيْنِ فَلَوْ اسْتَعْمَلَتْهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا زَالَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ الشَّحْنَاءُ وَاسْتَرَاحُوا مِنْ نَصَبِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ مَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَسْفَلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ كَيْفَ صَعِدْت هُنَا وَأَنْتَ فِي الذُّلِّ، فَقَالَ لِسَانُ حَالِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ.
قَالَ فِي الْحِكَمِ مَا طُلِبَ لَك شَيْءٌ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ وَلَا أَسْرَعَ بِالْمَوَاهِبِ إلَيْك مِثْلُ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ كَذَا فِي الْفَيْضِ مُلَخَّصًا (وَ) كَوْنُهُ (مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبًا لِرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ) وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ حَبِيبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّوَاضُعِ فَقَالَ - {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ٢١٥]- وَقَدْ مَدَحَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: ٦٣]- أَيْ تَوَاضُعًا وَفِي الرَّوْضَةِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا أَرَدْت أَنْ تَطِيرَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ فَكُنْ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْخَلْقِ كَالْهَامَةِ مَعَ الطُّيُورِ وَكُنْ بِالتَّوَاضُعِ مَعَ الضُّعَفَاءِ كَالْأَرْضِ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَلْيَكُنْ مَا فِي يَدَيْك كَالْمَاءِ الْجَارِي فِي النَّهْرِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَكُنْ مُشْرِفًا عَلَى الْخَلْقِ كَالشَّمْسِ عَلَى الدُّنْيَا وَكُنْ حَارًّا فِي طَاعَتِي كَالنَّارِ وَكُنْ خَائِفًا وَجِلًا كَالْوَرَقِ مَعَ شَجَرٍ وَكُنْ هَيِّنًا لَيِّنًا مَعَ الْخَلْقِ كَالْجَمَلِ فِي يَدِ الْجَمَّالِ وَكُنْ خَفِيفًا عِنْدَ حَاجَاتِ النَّاسِ كَالتُّرَابِ عِنْدَ الرِّيحِ وَكُنْ ثَقِيلًا عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ (وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُنْزِلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ مَنْزِلَتَهُ) أَيْ الْعَبْدِ إذْ مَنْزِلَةُ الْعَبْدِ هُوَ الذُّلُّ وَالضَّعْفُ وَالْحَقَارَةُ فَتَكَبُّرُهُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ
وَقِيلَ أَيْ قِيَاسُ التَّوَاضُعِ عَلَى سَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ التَّنْزِيلُ الْمَذْكُورُ (لَا دُونَهَا وَلَا فَوْقَهَا) شَرْعًا وَعُرْفًا (كَالشَّجَاعَةِ بَيْنَ التَّهَوُّرِ) هُوَ الْوُقُوعُ فِي أَمْرٍ بِلَا رَوِيَّةٍ (وَالْجُبْنِ وَالْعِفَّةِ بَيْنَ الشَّرَهِ) الْحِرْصِ الشَّدِيدِ (وَالْخُمُودِ) مَوْتِ الشَّهْوَةِ وَسُكُونِ لَهَبِهَا فِي النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَالسَّخَاءِ) الْجُودِ وَالْكَرَمِ (بَيْنَ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا) وَطَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ (لَكِنْ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَكَانَ الْقِيَاسُ (لَمَّا كَانَ النَّفْسُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَتْ وَهُوَ الْأَقْيَسُ (مَائِلَةً بِالطَّبْعِ) إذَا خَلَتْ عَنْ الْعَوَائِقِ وَطَبْعُهَا أَنْ تَكُونَ مَائِلَةً (إلَى الْعُلُوِّ كَانَ الْأَحْوَطُ) مِنْ الِاحْتِيَاطِ (وَالْأَنْسَبُ حَطَّهَا) تَنْزِيلَ النَّفْسِ (عَنْ مَرْتَبَتِهَا قَلِيلًا إذْ رُبَّمَا لَا يَدْرِي مَرْتَبَتَهَا) شَرْعًا وَعُرْفًا (فَيُنْزِلَ) الْعَبْدُ (نَفْسَهُ فَوْقَهَا غَفْلَةً) عَنْ مَرْتَبَتِهِ (وَحُبًّا لِلْعُلُوِّ) عَلَى الْأَقْرَانِ (إذْ حُبُّ الشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ) قِيلَ هَذَا تَلْمِيحٌ لِحَدِيثِ «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» وَاقْتِبَاسٌ مِنْهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَنَافِيَانِ إلَّا بِاعْتِبَارَيْنِ قَالَ فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ يَجْعَلُك أَعْمَى عَنْ عُيُوبِ الْمَحْبُوبِ وَأَصَمَّ عَنْ سَمَاعِهَا حَتَّى لَا تُبْصِرَ قَبِيحَ فِعْلِهِ وَلَا تَسْمَعَ فِيهِ نَهْيَ نَاصِحٍ، بَلْ تَرَى الْقَبِيحَ مِنْهُ حَسَنًا وَتَسْمَعُ مِنْهُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ كَثِيرٍ يُعْمِي الْعَيْنَ عَنْ النَّظَرِ إلَى مُسَاوِيهِ وَيُصِمُّ الْأُذُنَ عَنْ الْعَذَلِ فِيهِ أَيْ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ الْآخِرَةِ أَوْ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى، وَفَائِدَتُهُ النَّهْيُ عَنْ حُبِّ مَا لَا يَنْبَغِي الْإِغْرَاقُ فِي حُبِّهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ الْعَسْكَرِيُّ مِنْ الْأَمْثَالِ وَالْحُبُّ لَذَّةٌ تُعْمِي عَنْ رُؤْيَةِ غَيْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute