للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَحْبُوبِ وَتُصِمُّ عَنْ سَمَاعِ الْعَذَلِ فِيهِ وَالْمَحَبَّةُ إذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْقَلْبِ سَلَبَتْهُ عَنْ صِفَاتِهِ انْتَهَى

وَيَقْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا صَدَقَتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ وَ (هَذَا) أَيْ كَوْنُ حَطِّ النَّفْسِ عَنْ مَرْتَبَتِهَا أَحْوَطَ وَأَنْسَبَ (فِي التَّوَاضُعِ) أَيْ فِي إظْهَارِ الضَّعَةِ.

(وَأَمَّا فِي الضَّعَةِ) نَفْسِهَا فَالْأَوَّلُ مَا فِي الظَّاهِرِ وَالثَّانِي مَا فِي الْبَاطِنِ (فَالْأَوْلَى) الْأَحْرَى (أَنْ يَرَى) يَعْتَقِدَ (نَفْسَهُ أَدْنَى) أَذَلَّ (مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَهَذَا دَأْبُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ) مِنْ سَادَاتِنَا الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ (حَتَّى قَالَ الشِّبْلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قِيلَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الْوَلِيُّ الْمَشْهُورُ بَغْدَادِيٌّ صَحِبَ الْجُنَيْدَ قُدِّسَ سِرُّهُ مَالِكِيٌّ مَذْهَبًا عَاشَ سَبْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَقَبْرُهُ بِبَغْدَادَ (عَطَّلَ) لَعَلَّهُ مِنْ التَّعْطِيلِ (ذُلِّي) فَأَعَلَّهُ أَيْ جَعَلَ ذُلِّي (ذُلَّ الْيَهُودِ) مُعَطَّلًا يَعْنِي صَارَ ذُلُّ الْيَهُودِ مُعَطَّلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُلِّي أُعْدِمَ بَقَاءُ ذُلٍّ لَهُمْ فَجَمِيعُ الذُّلِّ حَصَلَ لَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْيَهُودِ ذُلٌّ وَقَدْ كَانَ الْيَهُودِيُّ عَرِيفَنَا بِالذُّلِّ عِنْدَ النَّاسِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْخُ نَفْسَهُ أَدْنَى مِنْ الْيَهُودِيِّ الَّذِي هُوَ أَذَلُّ الْخَلْقِ فَانْظُرْ (وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ أَرَادَ جَمِيعُ الْخَلْقِ أَنْ يَضَعُونِي أَدْنَى مِمَّا فِي نَفْسِي مِنْ الدَّنَاءَةِ) الَّتِي حَصَلَتْ بِنَفْسِهَا فِي نَفْسِهِ (مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ) لِعَدَمِ تَصَوُّرِ رُتْبَةٍ أَدْنَى مِنْهَا إذْ كُلُّ مَنْزِلَةٍ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الْحَقَارَةِ فَنَفْسِي أَحْقَرُ مِنْهَا (فَإِنْ اخْتَلَجَ) اضْطَرَبَ (فِي قَلْبِك أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ) لَا سِيَّمَا الْمُؤْمِنُ هَذَا سُؤَالٌ نَشَأَ مِنْ قَوْلِ الدَّارَانِيِّ وَالشِّبْلِيِّ (نَفْسَهُ أَدْنَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ) وَهُمَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَنِهَايَةِ الدَّنَاءَةِ لِلْقَطْعِ بِكُفْرِهِمَا وَكَوْنِ كُفْرِهِمَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ مِلَّةً وَاحِدَةً لَكِنَّهُ مُتَفَاوِتٌ كَكُفْرِ دَعْوَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَاَلَّذِي جَمَعَ فِيهِ أَنْوَاعَ جِهَةِ الْكُفْرِ وَتَفَرَّعَ عَلَى كُفْرِهِ أَنْوَاعُ الْفَضَائِحِ وَالشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ كَمَا فِي إبْلِيسَ لَعَلَّ اخْتِيَارَهُمَا فِي الْمِثَالِ لِلْإِشَارَةِ إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَلَا يَضُرُّهُ عَدَمُ ذِكْرِهِ فِي أَمْثِلَةِ مَنْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ الْبَعْضِ كَالدَّوَّانِيِّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسْتَقِلَّةِ مِنْ عَدَمِ إكْفَارِهِ اقْتِدَاءً بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي فُصُوصِهِ وَأَوْضَحَهُ بَعْضُ شُرَّاحِهِ كَالْجَامِيِّ بِأَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: ٩١] بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَالْأَصْلُ فِي نَفْيِ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَرْجِعَ الْقَيْدُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَا عَصَيْت يَا فِرْعَوْنُ الْآنَ وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَقَدْ أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ كَابْنِ الْكَمَالِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ إمَّا الْكُفْرُ أَوْ الضَّلَالُ لِلْمُخَالَفَةِ إمَّا لِلنُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ أَوْ الْمُفَسَّرَةِ وَإِمَّا لِلنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ أَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفُرَ لِكَوْنِ الِاحْتِجَاجِ بِمُحْتَمَلِ النَّصِّ وَلَوْ بَعِيدًا وَأَمَّا الشَّيْخُ ابْنُ عَرَبِيٍّ فَقَدْ طَالَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَكَثُرَتْ الْفُتْيَا وَالْأَقْوَالُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَفَّرُوهُ كَسَعْدِ الدِّينِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ غَيْرُ الْمَعْرُوفِ وَكَعَلِيٍّ الْقَارِي فِي رِسَالَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ لِرَدِّ الْفُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ عَدَّ مَوَاضِعَ تَخْطِئَةِ الْفُصُوصِ وَكَفَّرَ بِكُلٍّ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ لُزُومَ التَّأْوِيلِ إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ الْمَعْصُومِ، وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ فَإِمَّا يَكْفُرُ وَإِمَّا يَلْزَمُ عَدَمُ فَائِدَةِ مَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فُتِحَ بَابُ التَّأْوِيلَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ لَا يَكْفُرُ مُسْلِمٌ أَصْلًا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهَا بَعِيدَةً بِالنَّظَرِ إلَى أَنْفُسِهَا لَا نُسَلِّمُ بُعْدَهَا مُطْلَقًا، بَلْ عُلُوُّ شَأْنِ قَائِلِهَا وَكَلِمَاتُهُ الْمُتَكَثِّرَةُ وَالْمُتَعَدِّدَةُ الْمُهِمَّةُ فِي مَوَاضِعَ سَائِرِ كُتُبِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطُّرُقِ النَّقْلِيَّةِ تَقَرُّبُ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتُ، بَلْ تَيَقُّنُهَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ لَا يَصِحُّ كَوْنُهَا مَدْلُولًا لِأَلْفَاظِهَا وَلَوْ الْتِزَامًا وَمَجَازًا بِالدَّلَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قُلْنَا هَذَا بَحْثٌ اسْتِقْرَائِيٌّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَنَدٍ مُحَقَّقٍ وَأَنَّهُ عِنْدَ بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ لَفْظِهِ لَا يُخَطَّأُ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَإِنْ خُطِّئَ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهُ وَجُهِلَ بِحَسَبِهَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا مَخْصُوصًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ كَالْمُرْتَجِلِ وَأَقُولُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ ارْتِيَابَ أُولِي الْأَفْهَامِ وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الشَّيْخِ صَادِرَةٌ حَالَ الْغَيْبَةِ وَالسَّكْرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>