«مِنْ مَالِهِ» فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ لِئَلَّا يَطْغَى وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إلَيْهِ وَيَحْظَى بِثَوَابِهِ فِي الْعُقْبَى «وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ» مِمَّا يَزِيدُ عَلَى الْحَاجَةِ بِأَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ مَنْ شُغِلَ بِنَفْسِهِ شُغِلَ عَنْ النَّاسِ وَمَنْ شُغِلَ بِرَبِّهِ شُغِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا مَقَامُ الْعَارِفِينَ قَالَ الْغَزَالِيُّ التَّوَاضُعُ عَامِّيٌّ وَخَاصِّيٌّ فَالْعَامِّيُّ اكْتِفَاءٌ بِالدُّونِ مِنْ نَحْوِ مَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَالْخَاصِّيُّ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ مِنْ وَضِيعٍ أَوْ شَرِيفٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ.
(حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ تَعَالَى» لِأَجْلِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَوَاضُعًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّ التَّوَاضُعَ لِلنَّاسِ مَعَ اعْتِقَادِ عَظَمَةٍ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِتَوَاضُعٍ حَقِيقِيٍّ، بَلْ هُوَ بِالتَّكَبُّرِ أَشْبَهُ «دَرَجَةً» قَلِيلَةً «يَرْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى دَرَجَةً» عَظِيمَةً أَوْ كَثِيرَةً وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ؛ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ أَيْ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى وَفِي إخْرَاجِ أَبِي نُعَيْمٍ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قَالَ لَا يَا رَبِّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاضَعْ إلَيَّ أَحَدٌ قَطُّ مِثْلَ تَوَاضُعِك وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ تَفْسِيرِ الرِّفْعَةِ هُنَا بِأَنْ يُصَيِّرَهُ فِي نَفْسِهِ صَغِيرًا وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرًا وَقِيلَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ حَيْثُ يَضَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ تَحْتَ أَوَامِرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالِامْتِثَالِ وَزَوَاجِرِهِ بِالِانْزِجَارِ وَأَحْكَامِهِ بِالتَّسْلِيمِ لِلْأَقْدَارِ لِيَكُونَ عَبْدًا فِي كُلِّ حَالٍ فَيَرْفَعَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَلْبَتَّةَ وَالْمُكَلَّفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ وَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ فَإِنَّ الرِّفْعَةَ بِقَدْرِ النُّزُولِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَسْفَلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا، قَالَ فِي الْحِكَمِ مَا طُلِبَ لَك شَيْءٌ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ وَلَا أَسْرَعَ بِالْمَوَاهِبِ إلَيْك مِثْلُ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ كَمَا فِي الْفَيْضِ وَفِي شَرْحِ الْحَكَمِ عَنْ الشِّبْلِيِّ مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً فَلَيْسَ لَهُ مِنْ التَّوَاضُعِ نَصِيبٌ وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ مَا دَامَ الْعَبْدُ يَرَى أَنَّ فِي الْخَلْقِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فَمُتَكَبِّرٌ قِيلَ فَمَتَى يَكُونُ مُتَوَاضِعًا قَالَ إذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ مَقَامًا وَلَا حَالًا وَتَوَاضَعَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ «حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ» يَعْنِي كُلَّمَا ازْدَادَ التَّوَاضُعُ ازْدَادَ بِحَسَبِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي عِلِّيِّينَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ «وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دَرَجَةً» أَيْ عَلَى عِبَادِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَيْهِ تَعَالَى كُفْرٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَنْ كَفَرَ «يَضَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ» قِيلَ فِيهِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ لِتَأْكِيدِ مَنْطُوقِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَفْهُومَ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ، وَقِيلَ فِيهِ مُقَابَلَةٌ فِي مَوْضِعَيْنِ فَتَأَمَّلْ
. (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَاضَعَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجِبِ أُخُوَّتِهِ وَعَلَى مُقْتَضَى إسْلَامِهِ لَيْسَ لَهُ تَوَاضُعٌ؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْفَاسِقِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ التَّكَبُّرُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالتَّوَاضُعُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ التَّوَاضُعِ كَمَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ إخْرَاجٌ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت التَّوَاضُعَ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَنَحْوِهِمَا فَيُفْهَمُ غَيْرُهُ إمَّا بِالدَّلَالَةِ أَوْ بِالْمُقَايَسَةِ فَافْهَمْ «رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» لِأَنَّهُ تَعَالَى غَيُورٌ فَيُجَازِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute