نَظَرِك إلَى عُيُوبِك خَسِرْته مِنْ جِهَةِ تَعَامِيك مِنْ مَحَاسِنِك الَّتِي أَوْدَعَهَا الْحَقُّ. وَقَالَ شُهُودُ الْمَحَاسِنِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا نُقْصَانُك فَإِنَّمَا طَلَبُ النَّظَرِ إلَيْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْعُجْبِ. وَقَالَ إذَا أَغْضَبَك أَحَدٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلَا تَبْدَأْهُ بِالصُّلْحِ؛ لِأَنَّك تُذِلُّ نَفْسَك فِي غَيْرِ مَحِلِّ وَتُكَبِّرُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الْإِفْرَاطُ فِي التَّوَاضُعِ يُورِثُ الْمَذَلَّةَ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمُؤَانَسَةِ يُورِثُ الْمَهَانَةَ.
قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ الْخُضُوعُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ الْأَوْلَى فِيهِ ظُهُورُ عِزَّةِ الْإِيمَانِ وَجَبَرُوتِهِ لِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْمُؤْمِنِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْجَبَرُوتِ مَا يُنَاقِضُ الْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ، فَالْأَوْلَى إظْهَارُ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: ١٥٩] الْآيَةَ، وَقَالَ {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: ٧٣] فَهَذَا مِنْ بَابِ إظْهَارِ عِزَّةِ الْإِيمَانِ لِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ فَإِذَا عَلِمْت أَنَّ لِلْمَوَاطِنِ أَحْكَامًا فَافْعَلْ بِمُقْتَضَاهَا تَكُنْ حَكِيمًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالْمَهَانَةِ، أَنَّ التَّوَاضُعَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَجَلَالَةِ نُعُوتِهِ، وَالْمَهَانَةَ الدَّنَاءَةُ وَالْخِسَّةُ وَبَذْلُ النَّفْسِ وَابْتِذَالُهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهَا كَتَوَاضُعِ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالضَّعَةِ أَنَّ التَّوَاضُعَ رِضَا الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةٍ دُونَ مَا تَسْتَحِقُّهُ مَنْزِلَتُهُ، وَالضَّعَةَ وَضْعُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي مَكَان يُزْرِي بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ أَنَّ التَّوَاضُعَ يُعْتَبَرُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَالْخُشُوعَ بِاعْتِبَارِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ إذَا تَوَاضَعَ الْقَلْبُ خَشَعَتْ الْجَوَارِحُ وَالْكِبْرُ ظَنُّ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالتَّكَبُّرُ إظْهَارُ ذَلِكَ وَهَذِهِ صِفَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَبَّرَ عَلَيْهِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَبَّهَ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا تَكَبَّرَ عَلَى مُتَكَبِّرٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ التَّجَبُّرُ عَلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ «وَأَذَلَّ نَفْسَهُ» وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمَوْجُودُ فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي نُسَخِ الْكِتَابِ «ذَلَّ» أَيْ اعْتَقَدَ ذُلَّ نَفْسِهِ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِهِ مَعَ وُجُودِ التَّوَاضُعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّذَلُّلَ حَرَامٌ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ «مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ» مِنْ النَّاسِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذُلَّ فَوْقَ السُّؤَالِ
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ» .
قَالَ الْغَزَالِيُّ تَشَبَّثَتْ بِهِ طَائِفَةٌ فَقَلَّمَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمْ عَنْ التَّكَبُّرِ عَلَى الْأَمْثَالِ وَالتَّرَفُّعِ إلَى فَوْقِ قَدْرِهِ حَتَّى إنَّهُمْ لَيَتَقَاتَلُونَ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الِارْتِفَاعِ وَالْقُرْبِ مِنْ وِسَادَةِ الصَّدْرِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الدُّخُولِ مُعَلِّلِينَ بِصِيَانَةِ الْعِلْمِ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَإِذْلَالُ النَّفْسِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الْمُؤْمِنُ فَيُعَبِّرُونَ عَنْ التَّوَاضُعِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالذُّلِّ وَعَنْ الْكِبْرِ الْمَمْقُوتِ عِنْدَ اللَّهِ بِعِزَّةِ الدِّينِ تَحْرِيفًا لِلِاسْمِ وَإِضْلَالًا لِلْخَلْقِ.
(فَائِدَةٌ) رَوَى الْعَسْكَرِيُّ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى عُمَرَ وَقَدْ تَخَشَّعَ وَتَذَلَّلَ وَبَالَغَ فِي الْخُضُوعِ، فَقَالَ عُمَرُ أَلَسْت مُسْلِمًا، قَالَ بَلَى قَالَ فَارْفَعْ رَأْسَك وَامْدُدْ عُنُقَك فَإِنَّ الْإِسْلَامَ عَزِيزٌ مَنِيعٌ، كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ «وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ» بَلْ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ أُشِيرَ بِمِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ إلَى تَرْكِ الصَّدَقَةِ بِكُلِّ الْمَالِ «وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ» أَيْ الَّذِي بِمُخَالَطَتِهِمْ تَحْيَا الْقُلُوبُ «وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ» لِنَحْوِ الْفَقْرِ «وَالْمَسْكَنَةِ» أَيْ عَطَفَ عَلَيْهِمْ وَرَقَّ لَهُمْ وَوَاسَاهُمْ بِمَقْدُورِهِ «طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَعَ قَبْلَ هَذَا «طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ نَفْسَهُ»
قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ رَأَى ذُلَّهَا وَعَجْزَهَا فَلَمْ يَتَكَبَّرْ وَتَذَلَّلَ لِحُقُوقِ الْحَقِّ وَتَوَاضَعَ لِلْخَلْقِ رُوِيَ أَنَّ الْفَارُوقَ حَمَلَ حَالَ خِلَافَتِهِ قِرْبَةً إلَى بَيْتِ امْرَأَةٍ أَرْمَلَةَ أَنْصَارِيَّةٍ وَمَرَّ بِهَا فِي الْمَجَامِعِ «وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ» بِصِفَاتِ التَّوْحِيدِ وَالثِّقَةِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخَوْفِ مِنْهُ أَوْ الرَّجَاءِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ وَالْمَحَبَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ «وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ» أَيْ ظَهَرَتْ أَنْوَارُ سَرِيرَتِهِ عَلَى جَوَارِحِهِ فَكَرُمَتْ أَفْعَالُهَا بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَكَارِمِ أَخْلَاقِ الدِّينِ بِالصِّدْقِ وَالْبِرِّ وَبِمُرَاعَاةِ الْحُقُوقِ «وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ» فَلَمْ يُؤْذِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ لِرَاهِبٍ عِظْنِي، فَقَالَ إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَك وَبَيْنَ النَّاسِ سُوَرًا مِنْ حَدِيدٍ فَافْعَلْ، وَقِيلَ لِسُقْرَاطَ لِمَ لَا تُعَاشِرُ النَّاسَ فَقَالَ وَجَدْت الْخَلْوَةَ أَجْمَعَ لِدَوَاعِي السَّلْوَةِ «طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ» لِئَلَّا يَكُونَ عِلْمُهُ وِزْرًا وَوَبَالًا عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ زُهْدًا فَإِنَّمَا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بُعْدًا» «وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ» عَنْ حَوَائِجِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute