الْحَدِيثِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ وَجْهِ حِكْمَةِ مِعْرَاجِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَنَّهُ اخْتَصَمَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَنَاظَرُوا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ مِقْدَارَ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لِحَلِّهَا فَلَمَّا بُعِثَ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ إنَّمَا تَنْحَلُّ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَضَرَّعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِهِ فَدَعَا اللَّهُ حَبِيبَهُ إلَى مَقَامِ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.
وَمِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْوَحْيِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَأَيْت رَبِّي بِأَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى فَقُلْت أَنْتَ تَعْلَمُ يَا رَبِّ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفِي فَوَجَدْت بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى فَقُلْت نَعَمْ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْمُنْجِيَاتِ وَالدَّرَجَاتِ وَالْمُهْلِكَاتِ، قَالَ صَدَقْت يَا مُحَمَّدُ ثُمَّ قَالَ يَا مَلَائِكَتِي وَجَدْتُمْ حَلَّالَ الْمُشْكِلَاتِ فَاسْأَلُوا أَشْكَالَكُمْ، فَقَالَ إسْرَافِيلُ مَا الْكَفَّارَاتُ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَشْيُ الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ مِيكَائِيلُ مَا الدَّرَجَاتُ؟ فَقَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ قَالَ جَبْرَائِيلُ مَا الْمُنْجِيَاتُ؟ فَقَالَ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، ثُمَّ قَالَ عَزْرَائِيلُ مَا الْمُهْلِكَاتُ؟ فَقَالَ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلٍّ صَدَقَ مُحَمَّدٌ» (ز) الْبَزَّارُ.
(عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيت عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ» لِأَنَّ صَاحِبَ الذَّنْبِ لَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ وَلَا يَرَى لَهُ مِنَّةً وَحَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَكُونُ خَائِفًا مِنْ ذَنْبِهِ رَاجِيًا عَفْوَهُ «الْعُجْبَ الْعُجْبَ» لِأَنَّ الْعَاصِيَ يَعْرِفُ عِصْيَانَهُ فَيَرْجُو لَهُ التَّوْبَةَ وَالْمُعْجَبُ مَغْرُورٌ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ فَتَوْبَتُهُ بَعِيدَةٌ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا؛ وَلِذَا قِيلَ أَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَجَلِ صَوْتِ الْمُسَبِّحِينَ؛ لِأَنَّ زَجَلَهُمْ يَشُوبُهُ الِافْتِخَارُ وَأَنِينَ أُولَئِكَ يَشُوبُهُ الِانْكِسَارُ، وَالْمُؤْمِنُ حَبِيبُ اللَّهِ يَصُونُهُ وَيَصْرِفُهُ عَمَّا يُفْسِدُهُ إلَى مَا يُصْلِحُهُ وَالْعُجْبُ يَصْرِفُ وَجْهَ الْعَبْدِ عَنْ اللَّهِ وَالذَّنْبُ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ يُنْتِجُ الِاسْتِكْبَارَ وَالذَّنْبَ يُنْتِجُ الِاضْطِرَارَ وَيُؤَدِّي إلَى الِافْتِقَارِ، وَخَيْرُ أَوْصَافِ الْعَبْدِ افْتِقَارُهُ وَاضْطِرَارُهُ إلَى رَبِّهِ، قِيلَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ إنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ الذَّنْبَ يَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ لِخَوْفِهِ مِنْ أَجْلِهِ وَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ يَدْخُلُ بِهَا النَّارَ لِكِبْرِهِ وَعُجْبِهِ وَرِيَائِهِ بِهَا.
(وَأَقْبَحُ الْعُجْبِ الْعُجْبُ بِالرَّأْيِ الْخَطَإِ فَيَفْرَحُ بِهِ) كَأَهْلِ الْهَوَى (وَيُصِرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَسْمَعُ نُصْحَ نَاصِحٍ) لِكَوْنِهِ حَسَنًا فِي اعْتِقَادِهِ (بَلْ يَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ الِاسْتِجْهَالِ) مَعَ أَنَّهُ جَاهِلٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر: ٨] بِأَنْ غَلَبَ وَهْمُهُ وَهَوَاهُ عَلَى عَقْلِهِ، وَالْمُزَيِّنُ الْحَقِيقِيُّ إمَّا اللَّهُ تَعَالَى اسْتِدْرَاجًا أَوْ الشَّيْطَانُ {فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: ٨] حَقًّا {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: ١٠٤] مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ) اعْتِقَادًا وَعَمَلًا (إنَّمَا أَصَرُّوا عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ (لِعُجْبِهِمْ بِآرَائِهِمْ) الَّتِي يَرَوْنَهَا حَقًّا فَبَقُوا فِي ضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ (وَعِلَاجُ هَذَا الْعُجْبِ) أَيْ الْعُجْبِ بِالرَّأْيِ الْخَطَإِ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ (أَعْسَرُ وَأَصْعَبُ) رُوِيَ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْ مَعْنَى - قَوْله تَعَالَى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ١٠٥]- تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ» فَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ، بَلْ الْكُفَّارَ كُلَّهُمْ مُعْجَبُونَ بِرَأْيِهِمْ مَا أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute