كَوْنُ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا فَتَأَمَّلْ. فِيهِ بَلْ الْمُتَبَادِرُ كَوْنُهَا بِمَعْنَى الطَّلَبِ الْقَلْبِيِّ.
(فَلَا تُجَامِعُهَا) أَيْ الْإِرَادَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَدْ لَزِمَ مُجَامَعَتُهُمَا فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَقُولُ كَلَامُ الْإِمَامِ عَلَى مَا حَرَّرَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ آنِفًا لَا يَقْتَضِي اجْتِمَاعَهُمَا بَلْ يُوجَدُ أَوَّلًا الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ ثُمَّ لَا يَقْبَلُهُ شَرْعًا بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُخْرِجُهُ عَنْ قَلْبِهِ فَالْمُحَالُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ مَعًا لَا وُجُودُهُمَا مُتَعَاقِبًا فَاللَّازِمُ عَلَى الْإِمَامِ هُوَ التَّعَاقُبُ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُحَالٍ وَالْمُحَالُ هُوَ الْمَعِيَّةُ وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا قَدْ خَفِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بَلْ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ نَعَمْ يُقَرِّبُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ أَرَادَ نَفْيَ إمْكَانِ وُجُودِ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْحَاسِدِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِتَغَايُرِ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّ الْحَسَدَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ، وَالْكَرَاهَةُ عَارِضَةٌ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ كَوْنِهِ حَسَدًا مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا لِوُجُودِ تَمَامِ مَاهِيَّةِ الْحَسَدِ فِيهِ غَايَتُهُ حَسَدًا مِنْ إثْمِهِ بِتِلْكَ الْكَرَاهَةِ (كَمَا لَا تُجَامِعُ الشَّهْوَةُ أَعْنِي حُبَّ الطَّبْعِ ضِدَّهَا) أَيْ الشَّهْوَةِ (الَّذِي هُوَ النَّفْرَةُ) لَعَلَّ هَذَا تَنْظِيرٌ لِلِاسْتِظْهَارِ لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ زِيَادَةُ.
فَائِدَةٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ (بِخِلَافِ كُلٍّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ) أَيْ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ (فَإِنَّهُ يُجَامِعُ كُلًّا مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ) أَيْ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ إلَى آخِرِهِ فَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى فَائِدَتِهِ فِي نَفْسِهِ بَلْ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ عَلَى زَعْمِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَدَ الشَّهْوَةَ وَالنَّفْرَةَ فِي الْإِرَادَةِ مَثَلًا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا فِيهَا فَافْهَمْ وَقَدْ قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي أَمَّا مُجَامَعَةُ الْإِرَادَةِ مَعَ الشَّهْوَةِ فَفِي أَكْلِ الْعَسَلِ لِصَحِيحِ الْمِزَاجِ وَأَمَّا مَعَ النَّفْرَةِ فَفِي أَكْلِ الدَّوَاءِ الْمَرِّ لِمَعْلُولِ الْمِزَاجِ وَأَمَّا مُجَامَعَةُ الْكَرَاهَةِ مَعَ الشَّهْوَةِ فَفِي الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَكْلِ الْعَسَلِ لِأَجْلِ ضَرَرِهِ لِمَرَضِهِ وَمَعَ النَّفْرَةِ فَفِي الْمُمْتَنِعِ عَنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ (وَالْأُولَيَانِ) أَيْ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ (اخْتِيَارِيَّتَانِ) لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَوْنُ الْإِرَادَةِ سِيَّمَا مَبَادِئُهَا اخْتِيَارِيَّةٌ مَحَلُّ خَفَاءٍ كَيْفَ وَالِاخْتِيَارِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فِعْلًا وَالْإِرَادَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَهِيَ مَقُولَةٌ مُغَايِرَةٌ لِلْأُولَى وَأَيْضًا يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ مَلَكَةٌ رَاسِخَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عُرُوضُ الْكَرَاهَةِ اضْطِرَارِيَّةً بِلَا عِلْمٍ وَخَبَرٍ مِنْهُ كَمَا نُشَاهِدُ فِي بَعْضِ مَنْ وَجِدَاتِنَا (وَالْأُخْرَيَانِ) أَيْ الشَّهْوَةُ وَالنَّفْرَةُ (اضْطِرَارِيَّتَانِ) لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لَا يَخْفَى أَنَّهُمَا فِي نِهَايَتِهِمَا وَاسْتِمْرَارِهِمَا قَدْ تَكُونَانِ اخْتِيَارِيَّتَيْنِ (لَا تُوصَفَانِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ) كَيْفَ وَشَهْوَةُ الْمَعَاصِي وَنَفْرَةُ الطَّاعَاتِ قَدْ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُمَا بِالْحُرْمَةِ فَافْهَمْ (وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَلَا تَبْغِ مِنْ الْبَغْي الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ» يُرِيدُ بِهِ رَدًّا آخَرَ عَلَى الْغَزَالِيِّ فَإِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ بَلْ الْإِكْرَاهُ بِالْقَلْبِ وَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ إنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ بَلْ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فَالْمَعْنَى لَا تَبْغِ بِالْأَفْعَالِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا بِالْقُلُوبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَقُولُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْقَامُوسِ بَغَى الشَّيْءَ نَظَرَ إلَيْهِ وَبَغَيْته أَبْغِيه وَبَغِيَّتُهُ بِالْكَسْرِ طَلَبْته وَأَبْغَاهُ الشَّيْءَ طَلَبَهُ لَهُ وَاسْتَبْغَى الْقَوْمَ فَبَغَوْهُ وَلَهُ طَلَبُوا وَالْبَاغِي الطَّالِبُ وَبَغَى عَلَيْهِ عَلَا وَظَلَمَ وَعَدَلَ عَنْ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ، وَالشَّيْءَ نَظَرَ إلَيْهِ كَيْفَ هُوَ وَرَقَبَهُ وَانْتَظَرَ.
وَعَنْ الْمِصْبَاحِ بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا ظَلَمَ وَاعْتَدَى لَا يَخْفَى أَنَّ النَّظَرَ وَالطَّلَبَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ أَيْضًا بَلْ الِانْتِظَارُ ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ وَأَنَّ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ مُتَبَادِرًا فِيمَا بِالْجَوَارِحِ لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْبَغْي الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ مُحْتَمَلِيهِ إلَّا بِمُرَجَّحٍ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَقَدْ قِيلَ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَصْمِ سِيَّمَا الْإِمَامُ الْغَزَالِيِّ (وَسُئِلَ الْحَسَنُ) الظَّاهِرُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (عَنْ الْحَسَدِ، فَقَالَ غُمَّةٌ) كَرْبٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute