شَدِيدٌ وَحُزْنٌ (لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تُبْدِهِ) أَيْ مَا لَمْ تُظْهِرْهُ بِالْجَوَارِحِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا تُظْهِرُهُ مِنْ الْحَسَدِ لَا يَضُرُّ بِمُجَرَّدِ مَا فِي الْقَلْبِ وَاعْلَمْ أَنَّ حُجِّيَّةَ قَوْلِ التَّابِعِيِّ وَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابِيِّ كَالْحَسَنِ أَمْرٌ اخْتِلَافِيٌّ بَلْ حُجِّيَّةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَمَذْهَبُهُ أَيْضًا اخْتِلَافِيٌّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ أَيْضًا رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَتَّبِعُهُمْ فِي الرِّوَايَاتِ وَأَمَّا فِي الدِّرَايَةِ فَهُمْ رِجَالٌ تَكَلَّمُوا بِعُقُولِهِمْ. وَنَحْنُ رِجَالٌ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالُوا لَا حُجَّةَ مَعَ الِاخْتِلَافِ نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا مُرْسَلًا وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ شَائِعَةٌ مَشْهُورَةٌ لَكِنْ قَالُوا إنَّ أَكْثَرَ أَحَادِيثِ الْحَسَنِ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ رِوَايَةَ كُلٍّ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِكُلٍّ، وَلِذَا قِيلَ أَكْثَرُ أَحَادِيثِ الْمُتَصَوِّفَةِ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ فَيَقْبَلُونَ الرِّوَايَةَ مِنْ الْفَاسِقِ وَالْمَجْرُوحِ وَالْمَسْتُورِ وَالْمَطْعُونِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَقْبَلُونَهَا ثُمَّ نُقِلَ عَنْ رِعَايَةِ الْإِمَامِ الْمُحَاسِبِيِّ فِي بَابِ الرَّدِّ عَلَى كَوْنِ الْحَسَدِ بِالْجَوَارِحِ دُونَ الْقَلْبِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا لَا يَضُرُّك مَا دَامَتْ فِي قَلْبِك وَكَرِهْتهَا فَلَمْ تُظْهِرْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَدَمُ إظْهَارِهَا دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَتِهَا لَعَلَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ لَفْظَ مَا لَمْ تُبْدِهِ تَجُوزُ عَنْ الْحُبِّ وَالْإِبْقَاءِ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَبِيلِ وَضْعِ دَلِيلِ الشَّيْءِ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْء فَإِنَّ الْإِظْهَارَ دَلِيلُ الْإِبْقَاءِ وَالْحُبِّ فَمَدَارُ عَدَمِ الضَّرَرِ هُوَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ لَا مُجَرَّدُ عَدَمِ الْإِظْهَارِ ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ الْحَسَدُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا الِاسْتِعْمَال بِالْجَوَارِحِ كَمَا فَعَلَ إخْوَةُ يُوسُفَ فَإِثْمٌ آخَرُ مُتَسَبِّبٌ عَنْ الْحَسَدِ كَمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْغِيبَةُ وَالْوَقِيعَةُ وَتَحْرِيمُ الْخَيْرِ عَنْهُ كَالْعِلْمِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْمُعَاوَنَةِ أَوْ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَالْإِيذَاءِ بِالْجَوَارِحِ وَلَوْ كَانَ جِنْسُ هَذَا حَسَدًا لَكَانَ جَمِيعُ إسَاءَةِ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ حَسَدًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بِعِلْمٍ أَوْ بِعَقْلٍ فَالْحَسَدُ بِالْقَلْبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: ١٢٠] وَقَوْلُهُ {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: ١٠٥] الْآيَةُ.
وَقَالَ {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: ٦٩] وَغَيْرُهَا فَوَصَفَ الْحَسَدَ بِكَرَاهَةِ الْقُلُوبِ لِلْحَسَنَاتِ فَأَضَافَ لِفِعْلِ الْقَلْبِ دُونَ الْجَوَارِحِ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا فَسَّرْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً تَقُولُ إنَّ الْحَسَدَ بِالْجَوَارِحِ نَحْتَجُّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا وَقَدْ دَلَّنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بِالْقَلْبِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِالْجَوَارِحِ مُتَسَبِّبٌ عَنْهُ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: ٩] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ فِي النَّفْسِ لَا فِي الْجَوَارِحِ، وَاسْتِعْمَالُ الْجَوَارِحِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْمُحَاسِبِيِّ ثُمَّ قِيلَ الْمُحَاسِبِيُّ إمَامٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ مِنْ رِجَالِ الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَمُتَقَدِّمٌ عَلَى الْغَزَالِيِّ فَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ مِنْهُ ثُمَّ قِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ لَا يَضُرُّك أَيْ الضَّرَرَ الدُّنْيَوِيَّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، وَالْغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرٌ بِمَا يَتَسَبَّبُ إلَى جِنْسِ مَا ذُكِرَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ وَإِنْ بَعُدَ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ الْغَايَةَ إصْلَاحُهُ لِمُعَارِضَةِ الْقُوَى كَمَا سَمِعْت لَا يَكُونُ بَعِيدًا كُلَّ الْبُعْدِ فَافْهَمْ (وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ» أَيْ تَتَكَلَّمُ «أَوْ تَعْمَلُ بِهِ» لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُدَّعَى أَعْنِي الْحَسَدَ الْبَاطِنِيَّ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَحَدِيثَ النَّفْسِ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ فَلَا تَقْرِيبَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَدِيثُ حُكْمًا فِي ظَاهِرِهِ لَكَانَ نَحْوُ الْكُفْرِ وَالْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ مِمَّا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ مُتَجَاوَزًا عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَسْتَقِرُّ وَلَوْ كُفْرًا إذْ لَوْ صَرَفَهُ مِنْ فَوْرِهِ لَا يَكُونُ كُفْرًا بَلْ مُتَجَاوَزٌ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْقَبَائِحِ قَهْرًا ثُمَّ إنْ تَكَلَّمَ أَوْ عَمِلَ بِهِ قِيلَ يُؤَاخَذُ بِهِمَا فَقَطْ وَقِيلَ يُؤَاخَذُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَدِيثِ النَّفْسِ أَيْضًا لَعَلَّ التَّحْقِيقَ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُؤَاخَذُ بِحَدِيثِ النَّفْسِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْجَزْمِ فَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ أَثِمَ حَالًا كَمَا فِي الْفَيْضِ (أَخْرَجَهُ خ م) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute