(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا) وَأَمَّا الْحَدِيثُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «إذَا هَمَّ عَبْدٌ بِسَيِّئَةٍ فَأَنَا أَغْفِرُهَا مَا لَمْ يَعْمَلْهَا؛ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» فَعَنْ الْقَاضِي أَنَّ الْهَمَّ هُنَا يَمُرُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَلَا تَوْطِينٍ وَإِلَّا فَعَزْمٌ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِمَا فِي الْقَلْبِ قِيلَ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ. (وَحَمْلُهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جَانِبِ (الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ عَلَى مَيْلِ الطَّبْعِ بِلَا اخْتِيَارٍ) بَلْ بِاضْطِرَارٍ (مَرْدُودٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ التَّكْلِيفِ) عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى - لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا - (فَلَا ذَنْبَ فِيهِ فَلَا عَفْوَ وَ) لَفْظُ (تَجَاوَزَ) فِي الْحَدِيثِ مُسْتَعْمَلٌ (مَعَ عَنْ بِمَعْنَى عَفَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَاشِيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ اللُّغَةُ أَقُولُ إنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ نَفْسُهُ اضْطِرَارِيًّا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَبَادِئُهُ اخْتِيَارِيَّةً، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تُحَدِّثُهُ إلَّا بِأَسْبَابٍ اخْتِيَارِيَّةٍ غَالِبًا فَيَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِاعْتِبَارٍ مَبَادِئِهِ وَأَسْبَابِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ الَّذِي رَجَّحُوهُ كَوْنُ " أَنْفُسُهَا " فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا فَاعِلًا لِلْفِعْلِ حَدَّثَتْ فَيَلْزَمُ أَنْ تَخْتَرِعَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الْأَنْفُسُ لِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ صَاحِبِهَا فَيُتَّجَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ تَجَاوَزَ عَلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ نَحْوُ لَا يُؤَاخِذُ.
وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ لَفْظَ مَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٤]- عَامَّةٌ لِمَا يُطْلَقُ وَمَا لَا يُطْلَقُ حَتَّى أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ مِنْ مُحَاسَبَتِهِمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَقَالُوا كُلِّفْنَا بِمَا لَا نُطِيقُ «، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَا فَهِمُوا مِنْ الْعُمُومِ فَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ، غَايَتُهُ أَنَّهُ نُسِخَ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوعِ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْأُصُولِ.
وَأَيْضًا عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦] الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تَكْلِيفَهُمْ بِمَا لَا يُطِيقُونَهُ مُمْكِنًا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَكِنَّهُ تَعَالَى تَفَضَّلَ بِعَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَلَّفَ سَائِرَ الْأُمَمِ بِهَا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦] يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦] مِنْ تَفْرِيطٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ أَوْ بِأَنْفُسِهَا إذْ لَا تَمْتَنِعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا عَقْلًا ثُمَّ قَالَ لَكِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ التَّجَاوُزَ عَنْهَا رَحْمَةً وَفَضْلًا وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦]- وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَإِلَّا لَمَا سَأَلَ التَّخَلُّصَ عَنْهُ. وَأَقُولُ أَيْضًا النَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِيُتَصَوَّرَ النَّهْيُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ أَوْ يَأْتِيَ.
وَقَالَ فِي الدُّرَرِ النَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ وَعَنْ الْحِسِّيَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَقْدُورَةً حِسًّا وَعَنْ الْعَقْلِيَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَقْدُورَةً شَرْعًا وَإِلَّا كَانَ عَبَثًا وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدُّعَاءَ أَيْضًا كَالنَّهْيِ فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ الْمَوْلَى أَبُو السُّعُودِ فِي تِلْكَ الْآيَة إنَّ تَعَاطِيَ الْمَعَاصِي لَا يَبْعُدُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَزِيمَةٍ وَوَعْدُهُ تَعَالَى بِعَدَمِهِ لَا يُوجِبُ اسْتِحَالَةَ وُقُوعِهِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَمِثْلُهُ بِعَيْنِهِ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعَفْوُ وَالتَّجَاوُزُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ وَالذَّنْبُ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِلَا عَزِيمَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَقَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَعْضَ مَا لَا يُطْلَقُ تَكْلِيفُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا.
(وَ) الْوَجْهُ (الثَّانِي أَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ لَا تُؤَاخَذُ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ) حِينَ كَوْنِ الْمُرَادِ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ (بِقَوْلِهِ أُمَّتِي) إذْ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ حِينَئِذٍ.
أَقُولُ قَدْ سَمِعْت آنِفًا جَوَازَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَكَوْنِ التَّجَاوُزِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِأُمَّتِي لِوَاقِعَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَأَنَّ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي النُّصُوصِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي لِمَا عَدَاهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي كَمَا تَجَاوَزَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute