للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.

(وَالثَّالِثُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ) أَيْ الْحَمْلَ عَلَى غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى رِوَايَةِ رَفْعِ أَنْفُسِهَا) بِأَنَّهَا فَاعِلُ حَدَّثَتْ (وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ نَصْبِهَا فَلَا) يَصِحُّ ذَلِكَ الْحَمْلُ (إذْ الرَّفْعُ دَالٌ عَلَى الِاضْطِرَارِ) كَمَا رُوِيَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ أَنْفُسُهَا بِالرَّفْعِ فَاعِلًا لَحَدَّثَتْ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ وَأَيْضًا مِثْلُهُ عَنْ الْحَلَبِيِّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ النَّوَوِيِّ (وَالنَّصْبُ) دَالٌ (عَلَى الِاخْتِيَارِ) لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ إذْ لَا يَتِمُّ هَذَا بِدُونِ رَدِّ رِوَايَةِ الرَّفْعِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ بَلْ الرَّفْعُ أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَ النَّصْبُ أَشْهَرَ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ بَلْ فِيهِ تَلْقِينُ الْجَوَابِ لِلْخَصْمِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ يَجُوزُ الِاضْطِرَارُ عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ أَيْضًا إذْ الْأَمَةُ تُحَدِّثُ أَنْفُسَهَا بِحَدِيثٍ هِيَ مُضْطَرَّةٌ فِيهِ إذْ لَيْسَ حَدِيثًا بِاللِّسَانِ حَتَّى يَلْزَمَ الِاخْتِيَارُ فَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.

(وَالرَّابِعُ أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ) هُوَ قَوْلُهُ مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ (يُنَافِي ذَلِكَ الْحَمْلَ) أَيْ عَلَى غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ) هِيَ انْتِفَاءُ التَّجَاوُزِ (فَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أُمَّتِي كُلَّ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا إلَى أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ) أَيْ أَثَرُ مَا حَدَّثَتْ بِهِ (عَلَى الْجَوَارِحِ إمَّا بِالتَّكَلُّمِ أَوْ بِالْعَمَلِ فَيَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ الْهَمُّ وَالْعَزْمُ بِالْقَلْبِ بَعْدَ مَيْلِ الطَّبْعِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ) الْهَمُّ وَالْعَزْمُ اخْتِيَارِيَّانِ فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ لَا يَقْصُرُ عَلَى الِاضْطِرَارِيِّ بَلْ يَشْمَلُ مُطْلَقَ مَا فِي الْقَلْبِ. أَقُولُ قَدْ عَرَفْت فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ التَّصْمِيمَ فِي الْعَزْمِ مُؤْثِمٌ وَعَنْ الْغَيْرِ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْعَزْمَ مُؤَاخَذٌ بِهِ.

وَعَنْ عَلِيٍّ الْقَارِي أَنَّ النِّيَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعَزِيمَةَ مُؤَاخَذٌ بِهَا وَأَيْضًا ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: ٣٦] عَلَى مَا صَرَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ مُنَافٍ لِإِطْلَاقِ مَا ذُكِرَ. وَقِيلَ إنَّهُ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ لَكِنْ جَاءَتْ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْهَمِّ وَالْعَزْمِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ (وَالْمُرَادُ بِالتَّكَلُّمِ تَكَلُّمُ مَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ) أَيْ الْحَسَدِ لَا مُطْلَقُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَالْمُسْتَدْرَكِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (وَمُقْتَضًى مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ كَالْغِيبَةِ وَالْقَدْحِ) أَيْ الطَّعْنِ (وَالسَّبِّ) أَيْ الشَّتْمِ (فِي الْحَسَدِ) لَفْظُ فِي مِنْ قَبِيل عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ أَيْ لِلْحَسَدِ (وَسُوءِ الظَّنِّ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَلْبِيٌّ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ وَالتَّأْوِيلُ بِالْقَوْلِ بَعْدَ كَوْنِهِ تَكَلُّفًا فِي نَفْسِهِ يُوجِبُ تَجْوِيزَ سُوءِ الظَّنِّ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ فَاسِدٌ كَمَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ لِلْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَيْضًا لَا يُحَرِّمُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ.

وَبِالْجُمْلَةِ حَاصِلُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مَا فِي الْقَلْبِ غَيْرُ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا الْمَنْقُولَاتِ مِنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا عَنْ قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ بِإِثْمِيَّةِ الْعَزْمِ الْمُصَمَّمِ، وَعَنْ الْإِمَامِ الْمَازِرِيِّ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ طَيِّبٍ إنْ وَطَّنَ عَزْمَ الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ آخِذِينَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِظَوَاهِر النُّصُوصِ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: ١٩] وَ {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: ١٢] كَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. أَقُولُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ الْمُنَاسِبُ لِتَوْفِيقِ الْأَدِلَّةِ فَالْإِمَامُ فِي إفْرَاطٍ وَالْمُصَنِّفُ فِي تَفْرِيطٍ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَاَللَّه أَعْلَمُ (وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ) .

(فَإِنْ قُلْت إنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ) بِلَا عَمَلٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>