مُعَاوِيَةَ كُلُّ إنْسَانٍ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ أُرْضِيَهُ إلَّا الْحَاسِدَ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ الْحَاسِدِ غَمٌّ دَائِمٌ وَنَفْسٌ مُتَتَابِعٌ وَقِيلَ إذَا رَأَى الْحَاسِدُ نِعْمَةً بُهِتَ وَإِذَا رَأَى عَثْرَةً شَمِتَ وَقِيلَ إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَلِّطَ عَلَى عَبْدٍ عَدُوًّا لَا يَرْحَمُهُ سَلَّطَ عَلَيْهِ حَاسِدًا (وَهَذَا أَخْبَثُ الْحَسَدِ وَأَعْسَرُهُ إزَالَةً وَعِلَاجًا؛ لِأَنَّهُ طَبْعٌ وَجِبِلَّةٌ) بِخِلَافِ سَائِرِ أَسْبَابِ الْحَسَدِ؛ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ يُتَصَوَّرُ زَوَالُهَا فَيَطْمَعُ فِي إزَالَتِهَا، وَهَذَا خُبْثٌ جِبِلِّيٌّ فَهُوَ (يَكَادُ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ زَوَالُهُ) قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ فَتَعْسُرُ إزَالَتُهُ إذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ إزَالَتُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّكَلُّفِ بِإِزَالَةِ الْحَسَدِ الْمُتَسَبَّبِ عَنْ هَذَا السَّبَبِ لِكَوْنِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ أَيْضًا وَأَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ جَوَازِ تَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ وَمُوَافِقٌ لِبَعْضِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الِامْتِنَاعِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوا وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ يَعْنِي وَإِنْ فَرَّطَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ طَبْعُهُ فَمَا هُوَ إلَّا كَطَيْفِ مَنَامٍ أَوْ بَرِيقٍ لَاحَ وَحَالُ الْمُتَطَبِّعِ كَالْجِرَاحِ يَنْدَمِلُ عَلَى فَسَادٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْبَعِثَ عَنْ فَتْقٍ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ثُمَّ قَالَ، وَهَذَا الْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ قُلْنَا التَّمَسُّكُ لَنَا فِي أَمْثَالِهِ إنَّمَا هُوَ بِأَقْوَالِ عُلَمَائِنَا وَاتِّخَاذِ مَذَاهِبِهِمْ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَدِيثِ تَأْوِيلٌ أَوْ تَخْصِيصٌ أَوْ مُعَارِضٌ قَوِيٌّ مَثَلًا وَلَا نَطَّلِعُ عَلَيْهَا وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِمْ أَنَّهُمْ اطَّلَعُوا وَعَرَفُوا مَقْصِدَ الْحَدِيثِ وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْخُلُقُ تَارَةً لِلْقُوَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَتَارَةً يَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْحَالَةِ الْمُكْتَسَبَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْإِنْسَانُ خَلِيقًا أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ وَتَارَةً يُجْعَلُ الْخُلُقُ مِنْ الْخَلَاقَةِ أَيْ الْمُلَامَسَةِ فَجَعَلَ الْخُلُقَ مَرَّةً لِلْهَيْئَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَصْدُرُ عَنْهَا الْفِعْلُ بِلَا فِكْرٍ وَمَرَّةً اسْمًا لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ عَنْهَا بِاسْمِهِ وَعَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءُ أَنْوَاعِهَا مِنْ نَحْوِ عِفَّةٍ وَعَدَالَةٍ وَشَجَاعَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْهَيْئَةِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا انْتَهَى فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُوَ أَصْلُ الْقُوَّةِ الْكَيْفِيَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ قُلْنَا فَكَذَا فِي الْجَمِيعِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ. وَتَفْصِيلُ الْبَحْثِ حِينَئِذٍ إنْ أُرِيدَ مِنْ هَذَا الْحَدِّ أَصْلُ الطَّبِيعَةِ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ بَلْ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي أُصُولِ سَائِرِ الْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ كَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ أُرِيدَ الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا مِنْ الطَّبِيعَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فَلَا يَسْتَحِيلُ زَوَالُهُ أَقُولُ التَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي وَالْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ الْعَادِيَّةِ هُوَ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسَبِ عَادَةِ النَّاسِ لَا بِحَسَبِ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَايَتُهُ أَنَّ زَوَالَهُ عُسْرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّائِرِ إلَيْهِ قَوْلُهُ أَعْسَرَ وَقَوْلُهُ يَكَادُ فَفِي التَّعْبِيرِ مُبَالَغَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَتَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
(وَالسَّادِسُ) وَهُوَ آخِرُ الْأَسْبَابِ (الْحِقْدُ وَهُوَ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) اعْلَمْ أَنَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَ الْأَسْبَابَ السَّبْعَةَ وَجَعَلَ أَحَدَهَا التَّعَجُّبَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: ١٥] فَتَعَجَّبُوا مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ فَحَسَدُوا وَأَرَادُوا زَوَالَ نِعْمَةِ الرِّسَالَةِ عَنْهُمْ لِخَوْفِ تَفْضِيلِ مِثْلِهِمْ عَلَيْهِمْ وَأَيْضًا عَبَّرَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَدَلَ الْحِقْدِ هُنَا لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اعْتَبَرَ رُجُوعَ التَّعَجُّبِ إلَى أَحَدِ السِّتَّةِ كَالتَّعَزُّزِ وَالْحِقْدِ وَأَنَّ الْبُغْضَ أَثَرُ الْحِقْدِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَأَنَّ غَرَضَ الْمُصَنِّفِ اسْتِيفَاءُ مَبَاحِثِ الْحِقْدِ.
وَالْحِقْدُ خَصْلَةٌ ذَمِيمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهِ بِخِلَافِ غَرَضِ الْإِمَامِ كَمَا يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِحْيَاءِ (وَفِيهِ ثَلَاثُ مَقَالَاتٍ) فِي تَفْسِيرِهِ وَغَوَائِلِهِ وَأَسْبَابِهِ (الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِهِ وَحُكْمُهُ وَهُوَ) أَيْ تَفْسِيرُهُ (أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ اسْتِثْقَالَ أَحَدٍ وَالنِّفَارَ عَنْهُ) بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ النُّفْرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute