الثِّقَةُ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَقِيلَ هُوَ فَرَاغُ السِّرِّ عَنْ التَّفَكُّرِ لِلتَّقَاضِي فِي طَلَبِ الرِّزْقِ.
(طب عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ اسْتَرْقَى» الرُّقْيَةُ مَا يُقْرَأُ مِنْ الدُّعَاءِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ «أَوْ اكْتَوَى» مِنْ الْكَيِّ (وَتَأْوِيلُهُ سَبَقَ) لَعَلَّ الْمُرَادَ نَفْيُ كَمَالِ التَّوَكُّلِ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الشِّفَاءِ، وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ جَوَازُهُمَا، وَكَوْنُهُمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَوْهُومَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا فِي الْحِصْنِ أَنَّهُ يُرْقَى الْمَعْتُوهُ بِالْفَاتِحَةِ، وَأَيْضًا اللَّدِيغُ بِالْفَاتِحَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَغَيْرُهُمَا وَوَقَعَ فِي الْفَتَاوَى، وَأَمَّا أَخْذُ الْأُجْرَةِ فَظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى التَّأْوِيلِ.
قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة بَيْعُ التَّعَاوِيذِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ قَالَ إنِّي أَدْفَعُ هَدِيَّةً وَفِي بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ إنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّدَاوِي وَالرُّقَى مَنْسُوخَةٌ إلَخْ (ت عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ تَوَكُّلِهِ» ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوَكُّلِ إذْ الْمُتَوَكِّلُ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَحَالِ الطِّفْلِ فِي حَقِّ أُمِّهِ إذْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهَا، وَلَا يَفْزَعُ إلَى سِوَاهَا، وَلَا يَعْتَمِدُ إلَّا إيَّاهَا، وَإِنْ نَابَهُ مُرٌّ فِي غَيْبَتِهَا لَا يَسْبِقُ إلَى لِسَانِهِ إلَّا يَا أُمَّاهُ، وَإِذَا غَضِبَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ لَا يَفْزَعُ إلَّا إلَيْهَا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالُهُ كَصَبِيٍّ مُمَيِّزٍ وَثِقَ بِكَفَالَةِ أُمِّهِ وَشَفَقَتِهَا، وَلَا يَطْلُبُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا يَخْطِرُ فِي قَلْبِهِ إلَّا أُمُّهُ دُونَ ضَمَانِهَا، وَكَفَالَتِهَا لَهُ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ أَعْلَاهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِثْلَ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ، وَهَذَا الْمَقَامُ يُثْمِرُ تَرْكَ الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ مِنْهُ ثِقَةً بِكَرَمِهِ وَيَنْفِي التَّدْبِيرَ رَأْسًا وَالثَّانِي يُثْمِرُ تَرْكَ السُّؤَالِ دُونَ الدُّعَاءِ وَيَنْفِي كُلَّ تَدْبِيرٍ إلَّا الدُّعَاءَ وَالْأَوَّلُ يُثْمِرُ تَرْكَ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَطْ، وَلَا يَنْفِي أَصْلَ التَّدْبِيرِ بَلْ بَعْضَ التَّدْبِيرَاتِ وَالْأَوَّلُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ وَالْأَخِيرَانِ نَادِرَانِ، وَلَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا لَا يَدُومُ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ فَحَقُّ التَّوَكُّلِ الثَّالِثُ أَوْ الْأَخِيرُ إنْ مُطْلَقًا لَكِنْ قَوْلُهُ «لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ» شَامِلٌ لِلْأَوَّلِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ حَقِّ التَّوَكُّلِ حَقِيقَتُهُ الشَّامِلَةُ لِلْكُلِّ ثُمَّ بَيَّنَ رِزْقَ الطَّيْرِ بِقَوْلِهِ «تَغْدُو» تُصْبِحُ «خِمَاصًا» جِيَاعًا «وَتَرُوحُ بِطَانًا» شِبَاعًا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّعْطِيلَ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّوَكُّلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوَسُّلِ وَالِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّ مَرْزُوقِيَّةَ الطَّيْرِ بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ فَالْمَعْنَى لَوْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فِي حَرَكَاتِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ الْخَيْرَ بِيَدِهِ لَمْ يَنْصَرِفُوا إلَّا غَانِمِينَ سَالِمِينَ كَالطَّيْرِ لَكِنْ اعْتَمَدُوا عَلَى قُوَّتِهِمْ وَكَسْبِهِمْ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute