مَحَلُّ التَّوَكُّلِ الْقَلْبُ وَالْحَرَكَةُ بِالظَّاهِرِ لَا تُنَافِيهِ وَاعْلَمْ أَنَّ عَمَلَ الْعَبْدِ إمَّا جَلْبُ نَفْعٍ مَفْقُودٍ أَوْ حِفْظُ نَفْعٍ مَوْجُودٍ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ لَمْ يَنْزِلْ أَوْ قَطْعُ ضُرٍّ نَزَلَ فَسَبَبُ جَلْبِ النَّفْعِ إمَّا مَقْطُوعٌ كَمَدِّ الْيَدِ إلَى الطَّعَامِ فَتَرْكُ مِثْلِهِ جَهْلٌ وَحُمْقٌ لَا تَوَكُّلٌ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى لَا مِنْ الْيَدِ وَالْأَسْنَانِ أَوْ مَظْنُونٌ كَزَادِ مَنْ سَافَرَ الْبَرَارِيَّ فَتَرْكُهُ لَيْسَ مِنْ التَّوَكُّلِ عِنْدَ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَإِنْ جَائِزًا عِنْدَ الْخَوَاصِّ أَوْ مَوْهُومٌ كَالرُّقْيَةِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَيِّ فَتَرْكُهُ تَوَكُّلٌ وَمُبَاشَرَتُهُ تُخِلُّ بِالتَّوَكُّلِ ثُمَّ الْمُتَوَكِّلُونَ إمَّا خَوَاصُّ فَهُمْ يَتْرُكُونَ أَكْثَرَ الْقَطْعِيَّةِ كَتَرْكِهِمْ الزَّادَ عِنْدَ سِيَاحَةِ الْبَرَارِيِّ، وَإِمَّا مُتَوَسِّطُونَ كَالتَّقَاعُدِ عَنْ الْكَسْبِ فِي الْمِصْرِ ثِقَةً بِكِفَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا عَوَامُّ يَكْتَسِبُونَ وَلَكِنْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكَسْبِ فَصَاحِبُ الْعِيَالِ يَتَرَجَّحُ لَهُ هَذَا الْقِسْمُ عَلَى الَّذِي فَوْقَهُ كَمَا اكْتَسَبَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَمَا بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، وَأَيْضًا الْمُتَجَرِّدُ عَنْ الْعِيَالِ إنْ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ إلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَالْكَسْبُ لَهُ أَفْضَلُ (أَشَارَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى أَنَّ حَقَّ التَّوَكُّلِ) الْمَطْلُوبَ مِنْ التَّوَكُّلِ (وَأَعْلَى كَمَالِهِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ طَلَبُ الرِّزْقِ كِفَايَةَ الْيَوْمِ) بَدَلٌ مِنْ الرِّزْقِ (إلَى كِفَايَةِ الْغَدِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَنْ لَا يُجَاوِزَ (وَلَا يَدَّخِرَهُ لَهُ) أَيْ لِلْغَدِ (فَيُحْمَلُ هَذَا) أَيْ عَدَمُ الِادِّخَارِ لِلْغَدِ (عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ لَا) عَلَى حَقٍّ (فِي عِيَالِهِ إذْ ثَبَتَ) صَحَّ «ادِّخَارُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَزْوَاجِهِ قُوتَ سَنَةٍ» وَالْأَصْلُ فِي فِعْلُهُ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا لَنَا إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ كَوْنِهِ خَاصًّا بِهِ خِلَافًا لِمَنْ عَكَسَ وَمَعَ ادِّخَارِهِ لَهُنَّ كَانَ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْبِرِّ.
وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ التَّوَكُّلَ تَرْكُ الِادِّخَارِ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَصْرِ الْأَمَلِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ فَمَا دُونَهُ، وَأَكْثَرُهَا عُمُرُ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَدَّخِرَ أَصْلًا ثُمَّ كُلَّمَا قَلَّ ادِّخَارُهُ كَثُرَ فَضْلُهُ هَذَا لِمَنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَّا إلَى الْوَكِيلِ الْحَقِّ، وَإِلَّا فَالِادِّخَارُ أَفْضَلُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَجَرُّدُ الْقُلُوبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَرُبَّ شَخْصٍ شَغَلَهُ وُجُودُ قُوتٍ وَرُبَّ شَخْصٍ شَغَلَهُ عَدَمُهُ هَذَا حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِيَالِ فَلَهُ ادِّخَارُ قُوتِ سَنَةٍ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلتَّوَكُّلِ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ تَتَكَرَّرُ عِنْدَ تَكَرُّرِ السِّنِينَ فَادِّخَارُ مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ سَبَبُهُ ضَعْفُ الْقَلْبِ وَالْمُتَوَكِّلُ مُوَحِّدٌ قَوِيُّ الْقَلْبِ مُطْمَئِنُّ النَّفْسِ إلَى فَضْلِ اللَّهِ وَاثِقٌ بِتَدْبِيرِهِ دُونَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَقَدْ ادَّخَرَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ لِيُبَيِّنَ ذَلِكَ لِضُعَفَاءِ أُمَّتِهِ وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ نَهَى بِلَالًا عَنْ الِادِّخَارِ فِي كِسْرَةِ خُبْزٍ ادَّخَرَهَا لِيُفْطِرَ عَلَيْهَا فَقَالَ «أَنْفِقْ يَا بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا» وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ «أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الضُّعَفَاءِ فَإِنَّ الْغَرَضَ فَرَاغُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ أَمْكَنَ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ بِالرُّخْصَةِ فَالنَّاسُ فِيهِ مُخْتَلِفٌ.
(حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ» ، وَفِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ أَيْ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ يَأْتِيهِ أَلْبَتَّةَ فَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي طَلَبِهِ وَالِانْهِمَاكُ لِشَأْنِهِ وَالْحِرْصُ عَلَى اسْتِزَادَتِهِ لَا يُنْتِجُ إلَّا شُغْلَ الْقُلُوبِ عَنْ خِدْمَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَالْعَمَى عَنْ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَسُوءَ الظَّنِّ بِالْحَضْرَةِ الرَّازِقَةِ قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ اجْتِهَادُك فِيمَا ضُمِنَ لَك وَتَقْصِيرُك فِيمَا طُلِبَ مِنْك دَلِيلٌ عَلَى انْطِمَاسِ بَصِيرَتِك.
(حب هق عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى تَمْرَةً غَابِرَةً» دَاخِلَةً فِي التُّرَابِ مُتَلَطِّخَةً «فَأَخَذَهَا فَنَاوَلَهَا سَائِلًا فَقَالَ أَمَا» بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ «إنَّك لَوْ لَمْ تَأْتِهَا لَأَتَتْك» عَلَى حُكْمِ الْقِسْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا رِزْقُك الَّذِي سَاقَهُ اللَّهُ لَك فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ لُزُومُ التَّقَاعُدِ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute