التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ «إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» وَفِي رِوَايَةٍ «تَغْلِبُ غَضَبِي»
أَيْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ بِكَثْرَةِ آثَارِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قِسْطَ الْخَلْقِ مِنْ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِمْ مِنْ الْغَضَبِ لِنَيْلِهِمْ إيَّاهَا بِلَا اسْتِحْقَاقٍ وَإِنَّ قَلَمَ التَّكْلِيفِ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ إلَى الْبُلُوغِ وَلَا يُعَجِّلُ لَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إذَا عَصَوْا بَلْ يَرْزُقُهُمْ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَمَا تَعَلَّقَ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ وَيُرْوَى أَنَّهُ «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَ اللَّهُ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فِيهِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَتْ النَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيُخْرِجُ مِثْلِيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .
وَيُرْوَى «فَيَقْبِضُ قَبْضَةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ» (خ م. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا» قِيلَ التَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ تَعْظِيمًا لِرَحْمَتِهِ تَعَالَى (فَمِنْ) أَجْلِ «ذَلِكَ الْجَزَاءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ» أَوْ تَرَاحُمُ جَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَنْشَأُ مِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَمَحَبَّةُ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ لِأَوْلَادِهِمَا مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ «حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ» كَالْفَرَسِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ «حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» بِحَافِرِهَا فَيَتَوَجَّعَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ إذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ إلَّا كَدَارِ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِهِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمِائَةِ رَحْمَةٍ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَالْجَزَاءِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ وَلَا يَخْفِي أَنَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى مَا فِي شَرْحِ الْحَاكِمِ مِنْ أَنَّ الرَّجَاءَ إنَّمَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَعْمَالِ لِأَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ.
وَأَمَّا الرَّجَاءُ بِلَا عَمَلٍ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعَاصِي فَلَيْسَ بِرَجَاءٍ بَلْ أَمْنِيَّةٌ وَاغْتِرَارٌ مَذْمُومٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: ١٦٩] كَمَا قَالَ الْكَرْخِيُّ رَجَاءُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ بِلَا سَبَبٍ نَوْعٌ مِنْ الْغُرُورِ وَرَجَاءُ رَحْمَةِ مَنْ لَا يُطَاعُ جَهْلٌ وَحُمْقٌ قَالُوا الرَّجَاءُ مَعَ الْإِصْرَارِ كَطَلَبِ النَّارِ مِنْ الْجَمْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» وَقَالَ الْحَسَنُ إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا بِلَا حَسَنَةٍ بِاعْتِقَادِ حُسْنِ الظَّنِّ وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ فَلَوْ صَادِقًا لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: ٢٣] كَتَبَ أَبُو عُمَرَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك قَدْ أَصْبَحْت تَأْمُلُ بِطُولِ عُمْرِك وَتَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْأَمَانِيَ بِسُوءِ فِعْلِك وَإِنَّمَا تَضْرِبُ حَدِيدًا بَارِدًا.
(وَ) زَادَ (فِي رِوَايَةٍ م «وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute