للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ» وَفِي الْخَبَرِ «الْفَقْرُ مَشَقَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَمَسَرَّةٌ فِي الْآخِرَةِ» لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَإِبْرَاهِيمَ وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَشُعَيْبٍ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَكَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَيْثُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ فَصُولِحَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ رُبْعِ ثُمُنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ

أَقُولُ فِي التَّقْيِيدِ بِالْأَكْثَرِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَالْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اخْتَارُوا الْفَقْرَ حَتَّى قِيلَ مَاتَ أَرْبَعُونَ نَبِيًّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجُوعِ وَالْقَمْلِ كَمَا فِي بَحْرِ الْكَلَامِ لِأَبِي الْمُعِينِ النَّسَفِيِّ عَلَى أَنَّ غِنَى الْأَنْبِيَاءِ صُورِيٌّ لِعَدَمِ مَيْلِهِمْ وَحُبِّهِمْ وَاطْمِئْنَانِهِمْ بِالْمَالِ بَلْ أَكَلُوا مِنْ كَسْبِ أَنْفُسِهِمْ وَلَعَلَّك قَدْ سَمِعْت سَابِقًا أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِيوَانًا يَزْدَحِمُ الْأَغْنِيَاءُ الْتِجَاءً مِنْهُمْ بِإِحْسَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَحُكِيَ أَنَّهُ أُعْطِيَ لِابْنِ أَدْهَمَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَرَدَّهَا فَقَالَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَمْحُوا اسْمِي مِنْ دِيوَانِ الْفُقَرَاءِ (فَهُوَ نِعْمَةٌ وَعَلَامَةُ سَعَادَةٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ لِأَفْضَلِ الْخَلَائِقِ وَأَنَّ الرَّاحَةَ فِي السَّلَامَةِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْمُحْتَمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ فَإِنَّ نَفْعَ الْفَقْرِ كَالْمُتَيَقَّنِ وَنَفْعَ الْغِنَى كَالْمُحْتَمَلِ وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ (فَالْخَوْفُ مِنْهُ عَدَّهُ مِحْنَةً وَبَلِيَّةً) كَيْفَ وَالْفُقَرَاءُ الصَّابِرُونَ يَخَافُونَ مِنْ الْغِنَى كَمَا يَخَافُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لِصِدْقِ عَقِيدَتِهِمْ بِمَا لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْفُقَرَاءُ الصُّبُرُ جُلَسَاءُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

اعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ نِعْمَةً وَسَعَادَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَ آدَابَهُ كَأَنْ لَا يَكْرَهَ الْفَقْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا الْفَقِيرَ وَيَفْرَحَ بِهِ بَلْ يَطْلُبُهُ لِعِلْمِهِ بِغَوَائِلِ الْغِنَى وَيَكْرَهَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ وَكَأَنْ يُظْهِرَ التَّعَفُّفَ وَالتَّجَمُّلَ وَلَا يُظْهِرَ الشَّكْوَى وَالْفَقْرَ بَلْ يَجْتَهِدُ بِسَتْرِ فَقْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: ٢٧٣] وَلَا يَتَوَاضَعْ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ بَلْ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَلَا يُخَالِط الْأَغْنِيَاءَ وَلَا يُدَاهِنْهُمْ فِي الْحَقِّ طَمَعًا فِي عَطَائِهِمْ وَلَا يَفْتُرْ عَنْ عِبَادَتِهِ لِفَقْرِهِ وَيَبْذُلَ قَلِيلَ مَا فَضَلَ عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْدَ الْمُقِلِّ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرِ الْغِنَى وَلَا يَدَّخِر بَعْدَ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَفِي الِادِّخَارِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ أَنْ لَا يَدَّخِرَ إلَّا لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَدَرَجَةُ الْمُتَّقِينَ أَنْ يَدَّخِرَ لِأَرْبَعَيْنِ يَوْمًا وَمَا زَادَ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ مِيعَادِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَدَرَجَةُ الصَّالِحِينَ أَنْ يَدَّخِرَ لِسَنَةٍ فَمَا زَادَ خَارِجٌ عَنْ حَيِّزِ الْخُصُوصِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَعَلَى التَّسْلِيمِ) أَيْ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَقْرَ مِحْنَةٌ وَبَلِيَّةٌ

(فَفِيهِ) أَيْ فِي خَوْفِ الْفَقْرِ (سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى) الَّذِي وَعَدَ وَتَكَفَّلَ بِإِيصَالِ رِزْقِ كُلٍّ إلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ حَرَامٌ (ز) الْبَزَّارُ (يعل) أَبُو يَعْلَى (طكط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ» مِنْ الْعِيَادَةِ فِي الْمَرَضِ «بِلَالًا فَأَخْرَجَ لَهُ صُبَرًا» بِضَمٍّ فَفَتْحٍ: الْمَجْمُوعُ «مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا هَذَا يَا بِلَالُ» النِّدَاءُ لِزِيَادَةِ التَّلَطُّفِ وَالْمُؤَانَسَةِ «فَقَالَ ادَّخَرْته لَك» لَا لِنَفْسِي (وَفِي رِوَايَةٍ «لِأَضْيَافِك قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَا تَخْشَى أَنْ يُجْعَلَ لَك» أَيْ يَصِيرَ لَك فِي الْآخِرَةِ بِذَلِكَ «بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» الْبُخَارُ وَالدُّخَانُ ضَرَرٌ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّارِ نَفْسِهَا (وَفِي رِوَايَةٍ «أَنْ يَفُورَ لَك» مِنْ الْفَوْرِ وَهُوَ الْغَلَيَانُ «بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَفِي أُخْرَى «أَنْ يَكُونَ لَك دُخَانٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَنْفِقْ بِلَالًا» قِيلَ أَصْلُهُ بِلَالِي قُلِبَتْ يَاءُ الْإِضَافَةِ أَلِفًا «وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا» وَيَجُوزُ النَّصْبُ

<<  <  ج: ص:  >  >>