وَمِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ ضِمْنًا وَتَبَعًا الِاسْتِقَامَةُ وَهِيَ الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ كُلِّهَا) أَيْ عُهُودِ اللَّهِ وَعُهُودِ النَّاسِ (وَمُلَازَمَةُ الْعَدْلِ وَالتَّوَسُّطُ فِي كُلِّ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: ١١٢] وَهُوَ أَصْعَبُ الْأُمُورِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ رُوِيَ عَنْك شَيَّبَتْنِي هُودٌ فَمَا الَّذِي شَيَّبَك مِنْهَا أَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلَاكُ الْأُمَمِ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ قَوْلُهُ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: ١١٢] .
وَعَنْ الْمَطَالِعِ عَنْ الْحُكَمَاءِ هِيَ خَمْسَةٌ اسْتِقَامَةُ اللِّسَانِ عَلَى الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَاسْتِقَامَةُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَةِ مَعَ الْحَيَاءِ وَاسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ عَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَاسْتِقَامَةُ الرُّوحِ عَلَى الصِّدْقِ وَالصَّفَاءِ وَاسْتِقَامَةُ السِّرِّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْوَفَاءِ وَقَدْ عَرَفْت تَمَامَهَا فِيمَا مَرَّ (وَ) مِنْهَا (الْأَدَبُ وَهُوَ حِفْظُ الْحَدِّ بَيْنَ الْغُلُوِّ) مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْوَسَطِ (وَالْجَفَاءِ) بِتَفْرِيطِ حَدٍّ (بِمَعْرِفَةِ ضَرَرِ التَّعَدِّي) قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثٍ «أَدَّبَنِي رَبِّي» أَيْ عَلَّمَنِي رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَمَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْأَدَبُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ «فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» بِأَفْضَالِهِ عَلَيَّ بِالْعُلُومِ الْوَهْبِيَّةِ مِمَّا لَمْ يُعْطَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ قَالَ بَعْضُهُمْ أَدَّبَهُ بِآدَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَّبَهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الرَّبَّانِيَّةِ قَالُوا الْآدَابُ صُورَةُ الْعَقْلِ فَصَوِّرْ عَقْلَك كَيْفَ شِئْت وَالْفَضْلُ بِالْعَقْلِ وَالْأَدَبِ لَا بِالْأَصْلِ وَالنَّسَبِ لِأَنَّ مَنْ أَسَاءَ أَدَبَهُ أَضَاعَ نَسَبَهُ وَمَنْ ضَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ وَحُسْنُ الْأَدَبِ يَسْتُرُ قَبِيحَ النَّسَبِ وَفِي الْعَوَارِفِ بِالْأَدَبِ يُفْهَمُ الْعِلْمُ وَبِالْعِلْمِ يَصْلُحُ الْعَمَلُ وَبِالْعَمَلِ تَنَالُ رِضَا رَبِّك وَلَمَّا وَرَدَ.
أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْعِرَاقِيُّ جَاءَهُ الْجُنَيْدُ فَرَأَى أَصْحَابَهُ وُقُوفًا عَلَى رَأْسِهِ يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ. قَالَ أَدَّبْتَ أَصْحَابَكَ أَدَبَ الْمُلُوكِ قَالَ لَا وَلَكِنْ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ الْعَارِفُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَدَدْت رِجْلِي تُجَاهَ الْكَعْبَةِ فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ الْعَارِفَاتِ فَقَالَتْ إنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تُجَالِسْ إلَّا بِأَدَبٍ وَإِلَّا مُحِيَ اسْمُك مِنْ دِيوَانِ الْقُرْبِ وَقَالَ السَّقَطِيُّ مَدَدْت رِجْلِي لَيْلَةً فِي الْمِحْرَابِ فَنُودِيت مَا هَكَذَا تُجَالِسُ الْمُلُوكَ فَقُلْت وَعِزَّتِك لَا مَدَدْتُهَا أَبَدًا فَلَمْ يَمُدَّهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَقِيلَ الْأَدَبُ اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَقِيلَ الْأَخْذُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَقِيلَ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا أَدِّبُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ حُبُّ نَبِيِّكُمْ بِنَحْوِ أَنَّهُ بُعِثَ بِمَكَّةَ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ وَاجِبُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَحُبُّ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا أَوْ مُؤْمِنِي بَنِي هَاشِمٍ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ أَيْ حَفَظَتَهُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ الْمُدَاوِمِينَ لِتِلَاوَتِهِ الْعَامِلِينَ بِأَحْكَامِهِ يَكُونُونَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ الْأَدَبُ الْوَقْفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ بِمَعْنَى أَنْ تُعَامِلَ اللَّهَ بِالْأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا إنْ كُنْت أَدِيبًا وَإِنْ كُنْت أَعْجَمِيًّا وَعَنْ الْجَرِيرِيِّ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مَا مَدَدْت رِجْلِي وَقْتَ جُلُوسِي فِي الْخَلْوَةِ فَإِنَّ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ أَوْلَى وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ إذَا تَرَكَ الْعَارِفُ أَدَبَهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ مَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إلَى الْبَابِ وَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ مِنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ نَحْنُ إلَى قَلِيلٍ مِنْ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعِلْمِ قِيلَ مَدَّ ابْنُ عَطَاءٍ يَوْمًا رِجْلَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ تَرْكُ الْأَدَبِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ أَدَبٌ وَعَنْ الْجُنَيْدِ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ تَأَكَّدَتْ عَلَى الْمُحِبِّ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ الْأَدَبُ ثَلَاثَةٌ أَدَبُ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي نَحْوِ الْفَصَاحَةِ وَحِفْظِ الْعُلُومِ وَأَسْمَارِ الْمُلُوكِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَدَبُ أَهْلِ الدِّينِ فِي نَحْوِ رِيَاضَةِ النُّفُوسِ وَتَأَدُّبِ الْجَوَارِحِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَأَدَبُ أَهْلِ الْخُصُوصِ فِي نَحْوِ طَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَمُرَاعَاةِ الْأَسْرَارِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَحِفْظِ الْوَقْتِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْخَوَاطِرِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ فِي مَوَاقِفِ الطَّلَبِ وَأَوْقَاتِ الْحُضُورِ وَمَقَامَاتِ الْقُرْبِ انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute