(وَ) مِنْهَا (الْفِرَاسَةُ وَهِيَ خَاطِرٌ يَنْشَأُ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ فَيَنْفِي مَا يُضَادُّهُ قَشّ) الْقُشَيْرِيُّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ الْفِرَاسَةُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ وَقِيلَ مُكَاشَفَةُ الْيَقِينِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ وَقِيلَ سَوَاطِعُ أَنْوَارٍ تَلْمَعُ فِي الْقَلْبِ تُدْرَكُ بِهَا الْمَعَانِي وَقَالَ الرَّاغِبُ الِاسْتِدْلَال بِهَيْئَاتِ الْإِنْسَانِ وَأَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَفَضَائِلِهِ وَرَذَائِلِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: ٧٥]- {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: ٢٧٣]- وَذَلِكَ ضَرْبَانِ مَا يَحْصُلُ عَنْ خَاطِرٍ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَهُوَ مِنْ الْإِلْهَامِ وَمَا يَحْصُلُ بِإِلْهَامٍ حَالَ الْيَقَظَةِ أَوْ الْمَنَامِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ «فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ» أَيْ يُبْصِرُ بِعَيْنِ قَلْبِهِ الْمُشْرِقِ بِنُورِهِ تَعَالَى وَبِاسْتِنَارَةِ الْقَلْبِ تَصِحُّ الْفِرَاسَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ.
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ جَائِزٌ انْتَهَى وَمِنْ ثَمَّةَ شَرَطُوا لِحُصُولِ النُّورِ الْغَضَّ عَنْ نَظَرِ الْمَحَارِمِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ نَفْسُهُ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا - {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: ٤٠]- قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ يَتَرَدَّدُ بِكُمْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ فَيَسْتَغِيثُونَ بِكُمْ فَلَا يُغَاثُونَ فَكَانَ مِنْهُمْ فِي شَأْنِ الْحُسَيْنِ مَا كَانَ ثُمَّ قِيلَ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَعَنْ ابْنِ حِبَّانَ كَثِيرُ الْغَلَطِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ الْكُلُّ مِنْ الْفَيْضِ وَقَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ كَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُنَاوِيُّ مَرِيضًا فَعَادَهُ الْبُوشَنْجِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْحَدَّادُ وَاشْتَرَيَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ تُفَّاحًا نَسِيئَةً وَحَمَلَاهُ فَلَمَّا قَعَدَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ مَا هَذِهِ الظُّلْمَةُ فَخَرَجَا فَقَالَا أَيُّ شَيْءٍ فَعَلْنَا فَتَفَكَّرَا فَقَالَا لَعَلَّنَا لَمْ نُؤَدِّ ثَمَنَ التُّفَّاحِ فَأَعْطَيَا الثَّمَنَ وَعَادَا إلَيْهِ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِمَا قَالَ أَيُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الظُّلْمَةِ بِهَذِهِ السُّرْعَةِ أَخْبِرَانِي عَنْ شَأْنِكُمَا فَذَكَرَا لَهُ الْقِصَّةَ فَقَالَ نَعَمْ كَانَ يَعْتَمِدُ كُلٌّ فِي إعْطَاءِ الثَّمَنِ عَلَى صَاحِبِهِ وَالرَّجُلُ يَسْتَحْيِ مِنْكُمَا فِي التَّقَاضِي فَكَانَ تَبَعَةً وَأَنَا السَّبَبُ وَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ مِنْكُمَا وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ هَذَا يَدْخُلُ السُّوقَ كُلَّ يَوْمٍ يُنَادِي فَإِذَا وَقَعَ بِيَدِهِ مَا فِيهِ كِفَايَتُهُ مِنْ دَانِقٍ إلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ خَرَجَ وَعَادَ إلَى رَأْسِ وَقْتِهِ وَمُرَاعَاةِ قَلْبِهِ وَكَانَ شَاهْ الْكَرْمَانِيّ حَادَّ الْفِرَاسَةِ لَا تُخْطِئُ فِرَاسَتُهُ وَيَقُولُ مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ إذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ فَجَالِسُوا بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ يَدْخُلُونَ فِي قُلُوبِكُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَأَنْتُمْ لَا تُحِسُّونَ وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْفِرَاسَةَ وَلَكِنْ يَتَّقِيَ الْفِرَاسَةَ مِنْ الْغَيْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» وَلَمْ يَقُلْ تَفَرَّسُوا وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِرَاسَةِ لِمَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ اتِّقَاءِ الْفِرَاسَةِ.
وَعَنْ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ كُنْت فِي مَسْجِدٍ بِبَغْدَادَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيَّ بِشَيْءٍ أَيَّامًا فَأَتَيْت الْخَوَاصَّ لِأَسْأَلَهُ شَيْئًا فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيَّ قَالَ الْحَاجَةُ الَّتِي جِئْت لِأَجْلِهَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ أَمْ لَا فَقُلْت بَلَى فَقَالَ اُسْكُتْ وَلَا تُبْدِهَا لِمَخْلُوقٍ فَرَجَعْت فَلَمْ أَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى فُتِحَ عَلَيْنَا بِمَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ الْكُلُّ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ (وَ) مِنْهَا (التَّفَكُّرُ فِي نَفْسِهِ هَلْ هِيَ مُتَّصِفَةٌ بِمَعْصِيَةٍ فَيَتُوبُ عَنْهَا أَوْ مُتَعَرِّضَةٌ لَهَا فَيَحْتَرِزُ أَوْ لَا) اتِّصَافٌ بِهَا (فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَفِي الطَّاعَاتِ) هَلْ تَرَكَ أَوْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَمْ لَا (لِيَتَدَارَكَ مَا فَاتَ مِنْهَا) وَمَا اخْتَلَّ (وَيَحْتَرِزَ عَنْ تَرْكِهَا وَيَشْكُرَ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا حَصَلَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الطَّاعَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ التَّفَكُّرُ إمَّا فِي الْمَعَاصِي فَيُحَاسِبُهَا صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ مَثَلًا الْأَعْضَاءُ السَّبْعَةُ بَلْ جَمِيعُ بَدَنِهِ فَإِنْ مُلَابِسًا بِمَعْصِيَةِ فِي الْحَالِ يَتْرُكُهَا أَوْ فِي الْأَمْسِ فَيَتْرُكُ وَيَنْدَمُ وَإِنْ فِي نِيَّتِهِ التَّعَرُّضُ فِي نَهَارِهِ فَيَسْتَعِدُّ بِالِاحْتِرَازِ وَالتَّبَاعُدِ فَيُفَتِّشُ كُلَّ عُضْوٍ عُضْوٍ عَلَى الِانْفِرَادِ وَإِمَّا فِي الطَّاعَاتِ فَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي الْفَرَائِضِ كَيْفَ أَكْمَلَهَا أَوْ جَبَرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute